ذكرياتٌ غالية ، ابتعثهاٰ الصديقُ الدكتور عبدالحكم العلامي من سباتِها الطويلِ بدراسته العلمية المستفيضة المنشورة بمجلة (فصول) بعنوان (للحب طعم المراثي في ديوان "سيدة الأطلال الشمالية" للشاعر فولاذ عبدالله الأنور) ، في (العدد ١٠٨ - خريف العام ٢٠٢٢م).
ولهٰذه الدراسة قصةٌ حميمة لا أنساهاٰ ، ففي أحد أيام "أغسطس" القائظة من عام ٢٠٠٥م ، اتصل بي الدكتور العلامي يبلغني رغبةَ صديقِهِ الأديب الروائيّ "علي شُوك" ـ رحمه اللـه ـ في مقابلتي.
وعلىٰ مقهى شعبيّ في حدائق حلوان الهادئة التقيناٰ معاً ، وامتد بناٰ اللقاء زهاء ثلاث ساعات بين أسئلة "علي شُوك" المباشرة المقتضبة ، وأجوبتي الشجيّة المستفيضة.
كنت خارجاً لتوّي من تجربةٍ بالغة العمق والثراء والعاطفة القوية العنيفة ، وكانت الجروح الطازجة التي خلّفتهاٰ هٰذهِ التجربةُ في القلب تستعصي علىٰ الاندمال ، وكان الميدان الذي جرت فيه الوقائع مليئاً بالضحاياٰ والمكلومين وأولهم : سيدة الأطلال الشمالية التي فجّرت في شاعرها الوفيّ ينابيعَ الوجد والحنين والمناجاة.
مضَت هٰذهِ السيدة ، وتركَت في القلب معنىً جميلاً ومؤلماً يصعب على المقاومة ويتأبّىٰ على النسيان ، وربماٰ كان بينه وبينهاٰ الآن بضعة أمتارٍ ولكنه لا أراهاٰ.
وبدأ الناس يتسألون ، مَن هٰذهِ السيدة وما المقصود بـ الشمالية ؟ وما دلالة الأطلال في هٰذا العنوان ؟ وكانت القصيدة ذاتهاٰ لم تكتب بعد ، بل كانت تتخلّق في معمل القلب وتتماثل للظهور ، وكان "علي شوك" يسألني عن هٰذهِ التجربة بفضولٍ حارّ ، وكنت أجيبه بتؤُدةٍ واطمئنان شجيّ منتظراً ردّ فعله كمن يترقّب نِضاجَ الطعام البطيء علىٰ النارٍ الهادئة ، لكنه مع كل إجابة كان يُلحق سؤاله بسؤال آخر ، فأُلحِق بدوري إجابتي بإجابة أخرى حتىٰ نضج ردّ فعله علىٰ حرارة الحوار ليفصح لناٰ عن عزمه علىٰ كتابة روايته القادمة باستمداد وقائعهاٰ من مشاهد السيدة الطللية.
كان "عبدالحكم العلامي" يستمع إليناٰ وكأنَّ علىٰ رأسه الطير من السكينة ، ولكنّ عينيه كانتاٰ تلمعان ببواطن الشعور الخفيّ الذي يدرك عارفوه أنه الصمتُ الذي له ما بعدَه من لغة الإفصاحِ على الطريقة العلامية ، وقد كان ، ولكنناٰ لم نكن نعلم وقتهاٰ أنه كان يرتّب في مختبر ذهنه محاور الدراسة التي فاجأني بهاٰ بعد أيام من صدور الديوان في مارس من عام ٢٠٠٦م
ومن مفارقات القدر في هٰذهِ الجلسة أن يثمرَ صمتُ "العلامي" عن ظهور دراسته العلمية المستفيضة تلك ، بينماٰ لم يثمر إفصاحُ "علي شوك" عن ظهور روايته المستمدة من تلك التجربة ، فقد عصف به المرض فجأةً ، ثم اخترمته المنية ، ليكون هٰذا اللقاء الذي تمَّ بينناٰ هو الأول من نوعه وهو الأخير أيضاً ، رحـمه اللـه.
في أحد الأيام التي تلت ذلك اللقاء الحميم ، كانت قصيدة "سيدة الأطلال الشمالية" قد خرجت إلىٰ الحياة ، وكان لابد لهاٰ أن تصل إلىٰ ملهمتها أولاً ، ثم إلىٰ عبدالحكم العلامي ثانياً ، ولم تتحقق الرغبة الأولىٰ إلا بعد ست سنوات ، بينماٰ تحققت الثانية في حينهاٰ ، فقد اتصلتُ بـ "العلامي" فورَ فراغي من القصيدة لأشرُفَ باستقباله في بيتي حولَ هٰذا النصَّ الأدبيّ التي يُلمّ هو بجوّه النفسي إِلمامَ الصديق وإلمامَ الشاعر وإلمامَ الناقد جميعاً.
كان عبدالحكم العلامي أول مَن استمع إلى القصيدة في ذلك اليوم الذي شهدَ نُصرةَ الشعر للإنسانِ علىٰ أعداء الجمال ، وكان ثانيَ مَن استمع إليهاٰ أستاذي وشيخي العالم الجليل أحمد الديب رحمه اللـه ، مُوجّه أول التربية الإسلامية بإدارة حلوان التعليمية ورئيسي في عملي بالتربية والتعليم في ذلك الوقت ، وقد زرته في مسجده العامر بعِظاتِهِ اليومية بين المغرب والعشاء وفي بيته المفتوح لتلاميذه ومريديه في كل وقت ، زرته عشراتِ المرات عقب انتكاسة القلب في في الميدان ، فكان نعم المرشد لي في اجتياز هٰذهِ التجربة العنيفة حتىٰ خرجتُ منهاٰ إلىٰ دور النقاهة بسلام ، وإن كانت هي لم تخرج من الذهن ولم تخرج من اللاوعيِ أيضاً حتىٰ كتابة هٰذه السطور.
القصيدة بين يَدي قرّائهاٰ :
ثم انطلقت القصيدةُ إلىٰ النور وتبعتهاٰ قصائد أخرىٰ تدور في فلكِهاٰ ، ونُشرت هٰذهِ القصائد جميعاً في أكثر من مجلة وجريدة كـ (الأهرام ، الموقف العربي، الثقافة الجديدة ، الشعر) وغيرهاٰ ، في فترةٍ شديدة الخصوبة ، عامرةٍ بطميِ الحب والحزن والجمال ، تداخل فيها الوطن بالحب وامتزج فيها الموتُ بالحياة والمرأة بالمصير ، ومازلت أصداءُ هٰذهِ الفترة تحتويني بالجمال والجلال والخشوع كأزهىٰ فترات العمر على الإطلاق وأعمقهاٰ حباً وحزناً وجمالاً.
وجمَعت هٰذهِ القصائد في ديوان مخطوط عنونته باسم القصيدة ذاتهاٰ "سيدة الأطلال الشمالية " وهو الاسم الذي كانت هي تحبه وخرجت به بعد ذلك إلى النور لأتلمّس طريقي بين الأحياء من جديد.
مناقشة الديوان مخطوطاً :
ومِن عجبٍ أن حظّ هٰذا الديوان المخطوط من الذيوع والانتشار سبق حظ إصداره مطبوعاً ببضعة شهور ، فقد أقام له الصديق الشاعر عمارة إبراهيم ندوتين متتاليتين لمناقشته في نادي أدب حلوان الذي كان يترأسه في ذلك الوقت ، ليتصدىٰ لمناقشته في الندوة الأولىٰ الشاعر الناقد محمد أبوالمجد رحمه اللـه والناقدان: سيد الوكيل وسيد فؤاد ، ثم بعد نحو ثلاثة أسابيع تصدىٰ لمناقشتِه الراحل الكبير عبدالمنعم عواد يوسف والدكتور حسام عقل ، وخرجت الصحافة الأدبية بعدهاٰ بعناوين مختلفة تقول : (بعد ديوانه المخطوط ، هل ستتحول مناقشة الأعمال الأدبية المخطوطة إلىٰ موضة؟)
وفي "مارس" من عام ٢٠٠٦َم صدر ديوان "سيدة الأطلال الشمالية" مطبوعاً ـ وأحدث صدىً واسعاً في الأوساط الثقافية والإعلامية والأكاديمية ـ متضمناً ثماني عشرة قصيدة ، من بينهاٰ هٰذهِ القصيدة الشهيرة الطويلة ذات البيت الشّعريّ الواحد المؤلف مِن عشرات السطور المتصلة بلا انقطاع ، وكماٰ كان عبدالحكم العلامي أول من اقتنىٰ هٰذهِ القصيدة ، فقد كان أولَ من اقتنىٰ هٰذا الديوان.
ونزل الديوان وصاحبه ضيفين علىٰ الشاعر فاروق شوشة ـ رحمه اللـه ـ في برنامجه التليفزيوني "أمسية ثقافية" في أبريل من عام ٢٠٠٦م
وفي خريف عام ٢٠٠٧م مات "علي شوك" رحـمه اللـه ـ نعاه إلينا الصديق الشاعر عمارة إبراهيم ـ وماتت معه فكرة الرواية التي كان يتهيأ لكتابتهاٰ عن تجربة السيدة الطللية ، وفي يومٍ لاحق ـ بعد انتهاء مراسيم العزاء ، توجّهناٰ إلىٰ بيت الشاعر عمارة إبراهيم نتحدث عن"علي شوك" وأعماله الأدبية ولم يكن عندي منهاٰ شيء فقدم لي عمارة إبراهيم أحد هٰذهِ الأعمال: رواية "موسم البرسيم" وقال لي إنهاٰ علىٰ سبيل الاستعارة أي إنهاٰ يجب أن تُردّ إليه ، ولكنني لم أردهاٰ إليه حتى الآن ، ولاٰ أظنني سأردّهاٰ له قريباً.
قرأت رواية "موسم البرسيم" ولاحقني من خلال صفحاتهاٰ وجهُ مؤلفهاٰ علي شوك وهو يسألني وأناٰ أجيب وكأني رأيته يترسم في العالم الآخر فصولَ ومشاهد روايته المستمدة من تجربتي مع "السيدة الطللية".
في عام ٢٠٠٨م يفوز ديوان "سيدة الأطلال الشمالية" بجائزة الدولة التشجيعية ، ثم بجائزة أوسكار التميز من مجلس الشباب العربي بجامعة الدول العربية ، ثم بدرع محافظة حلوان ، ثم يستأنفُ حصدَ الجوائز والأوسمة علىٰ مدار العامين ٢٠٠٨م ـ ٢٠٠٩َم ، حتىٰ بلغَت ثماني جوائز ثمينة.
من هي سيدة الأطلال الشمالية ؟
هي رمزٌ عميق للمرأة أُمّاً أو ابنةً أو جدةً أو حبيبةً ، أو كل هؤلاء في شخص سيدةٍ واحدة ، ظهرَت للشاعر علىٰ حين غِرةٍ من الحياة فصنعت الجمال غير المسبوق وعزّزت المعاني العميقة للحياة.
هي وجهٌ حيّ من وجوه الذكريات الضائعة ، وملمحٌ ملموس من ملامح الآمال الوعِرة ، هي خصوبة الأيام التي ظهرَت فيهاٰ وليونة الطرق التي انفتحت بهاٰ إلى الآفاق البعيدة.
حين ظهرَت هٰذهِ السيدة في حياة الشاعر ، ظهرَت بالمعنى الشعريِّ المحسوس ، مثالياً كان وواقعياً طغىٰ حدّ النهاية إلىٰ أبعد ماٰ يكون الاتساق بين الواقع والمثال ، وعندئذٍ لم تكن هي هي ، بل تلبّستِ الزمان والمكان وتلبّسها الزمان والمكان وامتزجَت بكل شيءٍ جميل ، فأصبحت هي المنافحة عن الجمال في فلسطين ، وهي التي ترسف في الأغلال في العراق ، وهي العائدة من بلاد الأندلس الضائعة ، أصبح كل مكانٍ دالّاً عليهاٰ ، وأصبحت دالةً علىٰ كل مكان ، هي السيدة النموذج التي سطع نورهاٰ علىٰ وجه شاعرهاٰ فأدرك أنه الرجل الذي تمنىٰ أن يكونه علىٰ مرّ السنوات.
رحلَت هٰذهِ السيدة ، وانفض اللقاء الذي كان منعقداً علىٰ مقهىٰ حدائق حلوان ، ومات علي شوك ، ومنعه الموت من إتمام مشروع روايته عنهاٰ ، ولم تمنع الحياة عبدالحكم العلامي من استثمار صمته الثريّ في كتابة دراسته المستفيضة عنهاٰ ، وبقيَ الأثر الجميل الشجيّ الذي لا يموت في القلب من التلذّذ بذكرىٰ ذلك الحب القويّ العنيف الذي قادني إلى النعيمَ في مارس من عام ٢٠٠٥م وأخرجني منه في يوليو من العام نفسه ، وجاءت دراسة الدكتور عبدالحكم العلامي عن سيدة الأطلال الشمالية المنشورة في مجلة فصول ، في وقتٍ ماٰ كان أحوجني فيه إلى استرداد هٰذهِ الذكريات الغالية من براثن النسيان والائتناس بهاٰ في مواجهة الأيام والليالي الطوال.