الدجل الإعلامي أو الإعلام الأسود ظاهرة منتشرة عالميا ومتواجدة على الدوام، ولكنها تنشط تارة وتخبو أخرى وفقا للحاجة إليها في خلق رأي جماهيري وشعبي عندما يكون للجماهير ثقل ووزن في القضية المثارة، وغالباً ما ينشط التضليل الإعلامي في المراحل التاريخية التحوّلية كأزمنة الحروب والانقلابات وتغيير الأنظمة وإعادة صياغة الدول واحتدام التنافس وصراع القوى السياسية والاقتصادية والمجتمعية .. هنا يدخل التضليل الإعلامي كأهم أداة لكسب الصراع وتحقيق المصالح بين القوى المتصارعة والمتنافسة.
“نحن عبيد الكلمات”… قالهـا كـارل ماركـس، كيـف يمكن أن تكون العلاقة بين اللغة والوعي؟ وكيف بالإمكان استخدام اللغة للتلاعب بالوعي مما يجعل الإنسان عبداً لها… أي عبداً للكلمات ؟ للغة صبغة إيحائية في التأثير على شعور الإنسان ومن ثَم فكره وإدراكه، لذا كان الإنسان قديماً ولا زال يطلب النصيحة والمشورة في قضاياه الخاصة ويستمع للمواساة في مصائبه، فعندما نقول لشخص ما : “لا تحزن” نعلم بأننا لن نستطيع إيقاف القدَر الذي أحزنه، وربما نعجز عن تغييره، لكننا نحاول الإيحاء لشعوره وتهيئته من أجل التأثير على إدراكه للواقع ورؤيته للأمر، ومن ثَم تخفيف ذلك الشعور بالألم.
ولهذا، نجد كتب تطوير الذات تضج بالتجارب والممارسات التي تركز فيها على الجانب اللغوي، فإحدى النصائح مثلاً تقول : “اكتب أحلامك كي تتحقق” أي حَوّل هذا الحلم من أمنية إلى لغة مكتوبة لكي توحي هذه اللغة إلى عقلك بحلمك كلما قرأتها، وبالتالي تبرمج سلوكك وتعيد ترتيب جدول يومك. يقول سيرجي في كتابه التلاعب بالوعي : “فالوظيفة الابتدائية للكلمة كانت منذ فجر البشرية التأثير الإيحائي والإخضاع، لا من خلال الإدراك، بل من خلال الشعور”. وقد ظهر الاهتمام بهذا الجانب من اللغة في التأثير بالشعور على أساس فلسفي مبني على جذور الفلسفة السفسطائية.
إذ استخدم السفسطائيون اللغة من أجل التأثير على الرأي العام والجماهير. أي وضعوا آليات واستراتيجيات لترويج أفكارهم عن طريق التلاعب باللغة واستثمار معرفتهم بأسرارها. حيث قام السفسطائي غورجياس بتأسيس منظومة فلسفية كاملة حول الرأي واللوغوس الكلامي. فاستخدم اللوغوس من أجل التأثير على الرأي العام، وبالتالي تولد لدينا مصطلح : “فن قيادة النفوس”، أي التأثير على النفوس والآراء من خلال الإقناع الكلامي ليكون بمثابة الحرب النفسية على الجماهير.
ومن خلال هذه المنظومة الفلسفية وضع غورجياس نظريات تحدث فيها عن كيفية توجيه الحرب على الأعداء من خلال التهويل والإغواء الذي توحي به اللغة، كما تحدث عن آلية إرهاب العدو عن طريق الصوت والصورة. وهدفهم من ذلك هو الوصول إلى السلطة والسيطرة والتسلط على الشعب في اليونان، وبالتالي أصبحوا الأوائل في فلسفة التضليل السياسي.
فعلى الصعيد السياسي –مثلا- يقول باولو فرير: “الحكام لا يلجئون إلى التضليل الإعلامي إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور –ولو بصورة فجة- كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية، أما قبل ذلك فلا وجود للتضليل –بالمعنى الدقيق للكلمة– بل نجد قمعا شاملا. إذ لا ضرورة هناك لتضليل المضطهدين عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع”.
سطوة رأس المال
ولا يقتصر التضليل الإعلامي على المؤسسات الحكومية الرسمية في الدول الديكتاتورية القمعية، بل لرأس المال الخاص دكتاتورية أيضا المثيرة للجدل، وفي ذلك يقول الأمريكي (هربرت شيللر) مؤلف كتاب «التلاعب بالعقول»: “إن امتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها متاحٌ لمن يملكون رأس المال. والنتيجة الحتمية لذلك هي أن تُصبح محطات الإذاعة، وشبكات التلفزيون، والصحف، والمجلات، وصناعة السينما، ودور النشر مملوكةً جميعاً لمجموعة من المؤسسات المشتركة والتكتلات الإعلامية. وهكذا يصبح الجهاز الإعلامي جاهزاً تماماً للاضطلاع بدور فعال وحاسم في العملية التضليلية”.
نشوة الثراء
أما القائمين على صناعة «الإفك الإعلامي» فهم شريحة خبيثة من البشر الذين باعوا ضمائرهم من أجل جني أرباح مادية فلكية في أرقامها، واستذلوا أنفسهم لأسيادهم مقابل الثراء الفاحش، وهذا الذي حدى بأهل الصدق أصحاب الرسالات الإصلاحية من التبرؤ دوما من أي منفعة مادية نظير رسالتهم السامية؛ وكان شعار كل الأنبياء قاطبة في حوارهم مع أقوامهم: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109]، {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [هود:51] {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72] {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47] وعلى النقيض نرى سحرة فرعون -وهم أشبه بمحترفي التزوير والكذب الإعلامي المعاصر- يطلبون الأجرَ من الفرعونِ صاحبِ السلطان في مصر القديمة، وقد جاء طلبُ هذا الأجر في أكثرَ من مناسبة في القرآن الكريم؛ حيث يقول ربنا على لسانهم: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113]، {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء: 41].
دوامة الصمت
أعدت الباحثة الألمانية (إليزابث نويلة) دراسةً عن تأثير الإعلام على الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية، وانتهت فيها إلى أن الإعلامَ كثيرًا ما يشكل ضغطًا رهيبًا على الرأي العام؛ ليصبح الرأيُ العام هو ما يريده الإعلامُ، لا ما يريده الشعب!! عبر آلية أو نظرية أطلقت عليها: «دوامة الصمت». وتقوم هذه النظرية على اعتبار أن الإنسان يكره العزلةَ، ويخشى مِن مصادمةِ الرأي العام، وأن الإعلامَ يستطيع تحت شرط معين أن يُلحَّ على فكرة أو موقف من شخص أو جماعة بدرجةٍ تعطي قناعة لدى جميع المتلقين أنَّ هذا هو الرأيُ العام، ومِن ثَمَّ ترتفع الرغبةُ لدى مؤيدي هذه الفكرة، ويفتخرون بالانتماء إليها، بينما يشعر المعارضون لها أو المؤيدون لأطروحات أخرى بالحرج والخجل فيلزمون الصمت؛ مما يحوِّلهم إلى «أقلية صامتة» في المجتمع؛ بل ذهبت النظرية إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أن الإعلامَ يستطيع إذا توحَّد على وجهة نظر مصادمة لرأي الأغلبية أن يحوِّلَها إلى «أغلبية صامتة» تخجل من مبادئها؛ حتى لو كانت هي مبادئَ الأغلبية؛ بينما الأقلية المساندة من الإعلام تشعر بأنها صارت الأصل! ولكي تنجح هذه الظاهرة، لابد أن تتوحد وسائلُ الإعلام على أيديولوجية أو فكرةٍ أو هدف، وهذا حاصلٌ في حالات الإعلام الموجَّه مِن قِبَل الحكومات الديكتاتورية.
مظاهر لا حصر لها
صور ووسائل الإفك الإعلامي لا تنحصر في أسلوب معين .. إنها سياسة فضفاضة تحوي كل صنوف الكذب وغسيل الأدمغة والمغالطات والتهويلات ولي عنق النصوص والأخبار وبتر الحقائق وتهويل الأخطاء وتضخيم الإخفاقات، والتلفيق والتشويه والتحقير والتحريف والفبركة والخداع والتدليس والتزييف والتعتيم وشيطنة الخصم، وصولا إلى نظريةَ وزير الإعلام النازي (جوبلز): أكذب ثم أكذب ثم أكذب حتى يصير الكذب حقيقة في الأذهان ويصدقك الناس.
ويكفي أن نسوق مثلا واحدا للصياغة الإعلامية لمعرفة كيف تطبخ الأخبار: «وقوع تفجير مدوي وأجهزة البحث الجنائي تجمع الأدلة، والنيابة تتولى التحقيقات لمعرفة الملابسات واكتشاف الجناة»، «وقوع تفجير إرهابي مدوي، وجدير بالذكر أن هذه المنطقة معقل الحركات الإسلامية المتطرفة»، «وقوع تفجير مدوي، ويعتقد أن منفذه الشيخ فلان المحسوب على الجماعات الإسلامية الجهادية» .. الخبر الأول تمت صياغته بمهنية وحيادية، والثاني لمز للإسلام وارتباطه بالتطرف والإرهاب، والثالث إصدار الأحكام وإلصاق التهم قبل توفر الأدلة.
أيضا يقول الخبراء: تؤدي اللامبالاة الكاملة التي يتعامل بها الإعلان مع أي حدث سياسي، أو اجتماعي –بإصراره على إقحام نفسه عنوة وبغض النظر عن طبيعة الموضوع– إلى اختزال جميع الظواهر الاجتماعية إلى مجرد حوادث غريبة لا معنى لها.
الباطل زهوق
لكن لابد أن لا نضخم -بشكل هائل ومبالغ- قدرة الإعلام وتأثيره على الوعي الجماهيري، وتصوير إمكاناته بأنها قدرة مطلقة لا يحدها حد ولا يصفها وصف، ذلك لأن الوعي مرتبط دوما بالواقع، والأكاذيب لا جذور لها، لذلك مهما حاول الإعلام التضليل سوف تكشفها النتائج الواقعية والمحصلات العملية .. فالإنجازات الوهمية في الدول الفاشلة سيأتي عليها يوما ليكتشف الجميع أنها إخفاقات، والسجالات الفكرية العقيمة لابد لها من وقت تنجلي فيه الحقائق، وتبقى المحصلة الواقعية أعلى صوتا من أي بروباجندا إعلامية.
لذلك فالكثير من المحللين لهم تحفظ على اعتبار تحول الصورة المرئية (تلفاز وسينما وإنترنت ومطبوعات أحيانا) إلى سلطة حقيقية من يملكها يصبح السيد الحقيقي، أو كما يقول ريجيس دوبراي: “فإن سيد الصورة هو سيد البلاد”.
لأن هذه الأطروحة تلغي عقول مثقفي المجتمع الذين يتمتعون بحصانة فكرية وعقائدية تستعصي على حملات التشويه، كما أن هذه الأطروحة تلغي دور الإعلام البديل على الإنترنت وبالأخص شبكات التواصل الاجتماعي التي يصر تيار جارف من رواده على أن يكون له ذاتيته التي لا تعبأ بمهاترات الإعلاميين المأجورين، فتراها منتقدة تارة ومفندة للشبهات تارة أخرى بل وساخرة أحيانا، وكل هذا يلغي سياسة الصوت الواحد التي تتبناها الكتلة المضللة هنا أو هناك.
إن هدف التلاعب المساوي بالأهمية للتفكير هو مجال المشاعر، حتى إنه قد يكون المجال الرئيسي أو على الأقل المجال الأول الذي يوجه التأثير نحوه، المشاعر في الأحوال جميعها أكثر حركة وأكثر طواعية، وإذا ما تسنى «إبلاؤها» فإن التفكير أيضاً يصير ضعيفاً أمام التلاعب، يمكن القول إن اللعب على المشاعر في التلاعب الكبير بالوعي هو مرحلة إلزامية.
وإذا كان ثمة حاجة إلى إقناع الجمهور بأمر ما، فإن هذه العملية يجب أن تبدأ فقط بالتأثير في الانفعالات، أي إن الجمهور لن يرغب في أن يبذل الجهود والوقت على الحجة المنطقية.
ويشير المؤلف إلى أنه يسهل إثارة تلك المشاعر، التي تعد في الأخلاق المعتادة مدانة مسبقاً: الخوف، الحسد، الرضا عن النفس، فهي حين تنفلت من عقال الوعي، تكون الأقل انصياعاً للتحكم الذاتي، وتتجلى على نحو عاصف خاص،
أما المشاعر النبيلة المستندة إلى القيم التقليدية الإيجابية، فيكون تجليها أقل حدة، لكنه أكثر استقراراً، وتستخدم في التلاعب استخداماً مؤثراً المشاعر الطبيعية كالشفقة والتعاطف مع الضعيف والعاجز، ويكون المتلاعب الخامل في الكثير من الحالات، أي ذلك الذي يشدد على ضعفه وعدم مقدرته على الإدارة وحتى عدم رغبته فيها، الشخصية الأهم في برنامج التلاعب.
وختاما نقول: نعم .. هناك تضليل إعلامي، ولكنه لا ينطلي إلا على السذج وبادي الرأي، وتبقى الثقافة الرصينة والعقيدة السليمة والهوية الصادقة حصون منيعة تتهاوى أمام أسوارها جحافل السراب الإعلامي المخرب.