فى يونيو الماضى قام رئيس وزراء الهند ناريندرا مودى بزيارة إلى الولايات المتحدة، واستقبل بحفاوة بالغة، رغم النقد الأمريكى الدائم لسياساته المتعصبة ضد الأقليات، خاصة ضد المسلمين فى كشمير وغيرها من الولايات، ومصادراته لحقوق الإنسان وللحريات الدينية، واعتداءات حكومته المتكررة على المساجد والمدارس الإسلامية، ومحاولاته العنيفة لفرض سيادة القومية الهندوسية على كل بقاع الهند، المتعددة الأعراق والأديان.
استمرت الزيارة أربعة أيام، وجاءت فى وقت تقف الولايات المتحدة فيه على أبواب صراع مفتوح مع روسيا والصين فى وقت واحد، ولذا فإنها تسعى جاهدة لاستقطاب الهند إلى خندقها، باعتبارها الجارة الأقرب للصين، والحليف التاريخى لروسيا، الذى تعتمد عليه فى 50% من احتياجاتها الدفاعية.
وقد انتهز مودى الفرصة لترسيخ صورة ذهنية مدروسة بعناية فائقة لسياساته، تتوافق مع التاريخ الحضاري للهند، مستخدما أساليب أقرب إلى أعمال الساحر الهندى الماهر، فابتدأ بإهداء الرئيس بايدن صندوقا تراثيا مبهرا من خشب الصندل، يحتوى على منتجات وأعمال فنية ترمز إلى ثراء الهند كطبيعة وكحضارة، كما حصلت حرم الرئيس علي ماسة ثمينة، وأثناء تقديم تلك الهدايا أمام الكاميرات تحول بايدن وزوجته إلى تلميذين مستمعين، منبهرين بحديث الضيف الهندى، أما ضربة المعلم فكانت قيادة مودى لنخبة من الدبلوماسيين والسياسيين لممارسة اليوجا فى مبنى الأمم المتحدة بنيويورك، احتفالا باليوم العالمى لليوجا.
كان الاختيار الدقيق لنوع الهدايا ومغزاها، والاشتراك فى ممارسة اليوجا، درسًا مؤثرًا فى كيفية التطبيق العملي على المستوى الدولى لما نسميه ” القوة الناعمة ” لكسب القلوب قبل العقول، وإلى جانب ذلك فقد لجأ فى خطاباته إلى استخدام عبارات مثالية ساحرة ومؤثرة، مثل ” عالم واحد، عائلة واحدة، مستقبل واحد “، أو ” دعونا نسخر القوة الروحية لليوجا، ليس فقط لنكون أصحاء وسعداء، ولكن لنكون أيضًا لطفاء تجاه أنفسنا والآخرين“.
بمثل هذه العبارات الفضفاضة تحدث مودى كثيرا، عبارات يمكنك أن تراها عظيمة فيها خلاص العالم، أو تراها مجرد ادعاءات إنشائية فارغة، ليس هذا هو المهم، وإنما المهم قبول الآخر لها وتأثره بها.
وقد بالغ أعضاء الكونجرس فى تأثرهم بحديث ضيفهم الهندي، الذى استطاع أن يطربهم ويستثير حماسهم بكلام عاطفى خلاب، ومعروف أن الأمريكيين لديهم براعة مشهودة فى صناعة النجم السياسى وتسويقه عندما يرضون عنه، أو يحتاجون إليه، وهم الآن فى حاجة إلى مودى، ليس تقديرا لسياساته، وإنما للموقع الجغرافى للهند المجاورة للصين، وللدور الذى يرسمونه للهند مستقبلا، فلا توجد دولة أخرى لديها من الحجم أو القدرة على العمل كقوة موازنة للصين مثلها.
ويصف المسئولون الأمريكيون علاقة بلدهم مع الهند حاليا بأنها ” أهم علاقة ثنائية لأمريكا “، وهذا ما جعلهم يغضون الطرف عن تراجع الديمقراطية الليبرالية فى الهند، ويتغاضون عن شراء الهند المستمر للنفط الخام من روسيا، ويصمتون إزاء امتناع الهند عن التصويت فى الأمم المتحدة ضد حرب روسيا على أوكرانيا.
وكانت الهند مترددة فى القيام بالدور المطلوب منها أمام الصين، لكنها أخيرا أدركت أن هذا الملف هو أهم المحفزات التى تدفع علاقاتها مع أمريكا إلى الأمام، ويرصد المراقبون أن الهند أقدمت مؤخرا على اتخاذ قرارات تثير غضب الصينيين، وأجرت تدريبات عسكرية مع القوات الأمريكية على حدود الصين العام الماضى، وشاركت بنشاط كبير فى (مجموعة الرباعية ) التى تضم معها أمريكا واليابان واستراليا، على الرغم من ردود الفعل الصينية الغاضبة.
على الجانب الآخر ترى الهند أن العلاقات مع أمريكا مفيدة لها فى مواجهة الصين، وأن الوقت قد حان للظهور على المسرح العالمى بالشكل والثقل اللائقين، فهي الآن واحدة من النقاط الاقتصادية المضيئة فى العالم، والجغرافيا السياسية فى صالحها، كما أن معظم دول العالم تريد بديلا صناعيا للصين، والهند لديها أيضا سوق ضخمة مع طبقة وسطى متنامية، لكن الدعم الأمريكى هو ما سيجعل حلمها حقيقة.
من ثم فإن الحفاوة البالغة بالضيف الهندى فى واشنطن لم تكن تعبيرا عن حب عذري، أو إعجاب سياسى، وإنما هى أولا وأخيرا عملية معدة بعناية لصناعة حليف مهم، أو لشرائه، أو لغوايته.
وقد ذكرت صحيفة ” فاينانشيال تايمز” فى افتتاحيتها:” لا شك أن أمريكا والهند تشتركان فى خوف واقعى من الصين العدوانية، وأن التقارب بينهما هو الشيء المنطقى الذى يجب القيام به، ولكن التودد إلى أكثر المتراجعين عن الديمقراطية قسوة فى العالم هو سلوك فظ وغير ضرورى“.