خالد الطبلاوى ..الشاعر والقاص المبدع، والناقد المثقف الخلوق، والأديب الأريب المحترم، والروح النقية الشفافة، هو من حمل عبء المرحلة الصعبة التى نحياها، وكان رمز جهادها بالكلمة من الشعراء، حتى أننى قلت فى ذلك يوم احتفال توقيع ديوانه الرائع ” هنا القاهرة ” بمعرض الكتاب فى بداية هذا العام أن ” الطبلاوى فرد أو (فرض) كفايه ” فها هى قصائده المقاومة للإنقلاب على الشعب وشرعيته ملء السمع والبصر، يتغنى بها أصحاب الأصوات الخاشعة وتتمتع بها أصحاب القلوب الحية، كفى كفى .. حتى لا أطيل عن اخى الطبلاوى فيظن البعض أنى أجامل ويظن البعض الأخر أنى أنافق ، كفى كفى.. ولندخل سريعاً إلى نهره العذب .
ففى إحدى نسائمه الهادئة ظاهرياً والمؤلمة داخلياً من ديوانه الشهير “هنا القاهرة” وقع قلبى على قصيدته “حبى الأول” فعاودت عينى القراءة مراراً لها، وسحرتنى بمشاهدها الرائعة وأخذتنى بطيب إريجها.
فها هو العنوان ” حبى الأول ” يوحى لك بمضمون رومانسى ووجبة عاطفية تعشق تذوقها عندما تعود بك إلى ذكرياتك الشابه وأول دقات قلبك عاطفياً.
ولكن عند أول خطواتك داخل النص تكتشف معنى عام وأشمل وترمق دمعة شوق فى عيون حزينة حائرة إلى سند وعكاز وظهر كان يحمى ويربى ويرعى ويحنو ويرفق.
وما كنت أحسب أنى سأبكيك يا نبع ذاتى
ونجمات شعرى بدت سافره
وعمرى يغادر درب الحياة
يعانق أوله أخره
بدأ الطبلاوى قصيدته من النهاية، بدأ بهمسة من الحزن الصادم، بدأ وكأنه ينتحب فى جنازة، ملمحاً إلى قسوة المصاب وعظمه، وخاصة فى تلك المرحلة التى يعانق فيها أول عمره أخره، فكأنه يقترب من النهاية، وكأن الطبلاوى كان يتمنى الموت قبل هذا الحب حتى لا يعيش تلك الصدمة بفقده، لكنه ترك سطراً وسطياً بين المعنيين بكاء الفقد ونهاية العمر ترك سطراً يحمل أيضاً معنيين ( ونجمات شعرى بدت سافرة ) فمقصده قد يكون شَعرى بفتح الشين ويقصد الشيب فى رأسه ليدل على كبر السن، وقد يكون مقصده – الذى أميل له – أن اغراض شعره وقصائده بدت مباشرة واضحة مكشوفة الهدف والغاية حين بدأ يكتب فى الرثاء، ولكن رثاء من؟
فلا لست أنسى وأنت الغرام القديم
الذى ظل يغرس فىَّ الحنان
وماء الحياه
وظلٌ تربع فى الهاجرة
فمازلت أشعر نبض الأصابع
من فوق رأسى وصدرى وظهرى
ومازلت أشعر حضناً
ودفئاً تسرب بين الضلوع
إلى الصدر والمهجة الحائرة
هكذا رويداً رويداً يمنحنا الطبلاوى مفاتيح للكشف عن حبه الأول عن الشخصية المرثية هنا ( غرامى القديم – يغرس فى الحنان – ماء الحياه – نبض الأصابع – حضنا ودفئا) إنها مفردات تأخذنا إلى الوحيدة التى تملك كل هذا الكنز إنها الأم، فهل يقصدها فعلاً؟
بحق الحكايا التى قد غزلنا معاً من خيوط الليالى
وحبً تلآلآ فى مقلتيك
وأنت تصبين سيل الأمانى عذاباً فراتا
بأنى سأصبح فوق السحاب
بحق الغناء الذى كنت أصحو عليه
( يا صباحك عندنا.. لا يساويه الغنى )
فيقتات قلبى على الحب
والود كان الشراب
بحق الطعام الذى كنت ألعقه من يديك
فأعشق طعم الأصابع قبل الطعام
وما قد دسست بقلب الحقيبة
قبل الذهاب إلى المدرسة
بدأت كاميرا الذكريات لدى الطبلاوى تقدم لنا (فلاش باك) لتستعيد بعض المشاهد التى لن ينساها، والتى تجسد لنا كيف كانت تلك الأم الواعية الصالحة بالنسبة للشاعر، فها هما يقضيان الليل فى سمر ومودة، وتتمنى وتدعو له بكل خير وتخبره بمستقبل باهر له.
ها هو يتذكر عندما كانت توقظه بالغناء الموروث الشعبى من الأجداد فيسعد بغنائها الصباحى، يتذكر طعامها ونفسها الفريد المميز الذى كان يجعل أصابعها التى تطعمه أطعم من الطعام نفسه، ومن منا لم يعش عمره وهو أسير طعام أمه حتى بعد زواجه.
لم تقف كاميرا الذكريات عند هذا الحد بل تخطته إلى ما هو أبعد:
وعند الرجوع
ألوذ بكرس حجرٍ حنون
أحدث عن كل ما قد رأيت
وتصغين فى رقة ساحرة
بحق الذراع الذى قد توسدت عند المنام
وذاك الحمام الذى قد زعمت
بأنك لى تذبحين إذا ما غفوت
( هوه.. هوه.. نام نام .. وانا أّذبح لك زوجين حمام)
وقد عانق الصدق منك الكلام
الصورة الرائعه والمشهد الحركى المبدع لا يحتاج شرح، فقط أود تسليط الإضاءة على بعض جوانب المسرح للكشف عن نقاط بعينها تأملوا:
1- ( وعند الرجوع ألوذ بكرس حجرٍ حنون ) هنا ينقل لنا الطبلاوي بكاميرا الحنين موضع الأمان والحنان حجر الأم الذي شبهه بالكرسي دائم الاستقرار بجانب مدفاة القلب،
2- استخدام الموروث الشعبى للمره الثانية فى قوله ( هوه هوه نام نام وأنا أذبح لك زوجين حمام ) وجميعنا كانت تغنى له أمه تلك الكلمات وقد نشأنا عليها وورثناها وتغنينا بها لأولادنا.. ولكن أخذ على الطبلاوى هنا أنه فصحها وكان يجب أن يذكرها كما قالها الأولون ( هوه هو نام نام وانا ادبحلك جوز حمام ) ولا أرى أنها كانت ستخل بالوزن أو تعوق المعنى لكون القصيدة فصيحة، ولأنها استشهاد موروث كان يجب أن يأتى كما هو لكن حرص الطبلاوى على الفصحى وألا يقع فى جنحة العامية أوقعه فى جريمة تعديل الموروث وتغيير ما لا يملك.
كما كنت أتمنى – رؤية شخصية غير ملزمة – أن يجمع الطبلاوى مشهدى النوم والصحيان معاً، أعلم أنه بدأ يروى حركة اليوم بداية من الصحيان ثم المدرسه ثم العوده ثم النوم.. مراحل طبيعية.. لكن إحساسى أنه لو جمع مشهدى النوم والصحيان بمورثهما الشعبى الذى استشهد به كانت الصورة ستصبح أبدع مما هى عليه.
3- راق لى جداً تعليق الطبلاوى ( وقد عانق الصدق منها الكلام ) فهذا يشير إلى أنها – ر حمها الله – كانت تذبح له زوجين من الحمام فعلاً كلما نام على تلك الأغنية الشعبية، وهذا يفسر لى رقة الطبلاوى التى تشبه رقة الحمام، ولن أحسده فقد كان ينام على غناء أمه ووعدها ويصحو على صدق أمه وحمامها، وكان غيره يقال له ( نام يا ابن الكلب وللا أجى أدبحك) اللهم لا حسد ههههه.
بحق النجاح الذى كان يشرق شمساً على وجنتيك
إذا ما رأيت الشهادة
ولوحى الذى كنت أحفظ منه الكتاب العزيز
فكنت تعانين من سوء حفظى
ومن كظم غيظٍ
تحسين ضيقاً كطلق الولادة
مازالت كاميرا الذكريات تعدد مشاهد سعادة الأم بإبنها عند التفوق، ليس فقط بل وتعدد مشاهد ضيقها منه وما كانت تعانيه بشدة لو أخفق .. لو أخفق فى ماذا؟ فى حفظ القرآن.. إشارة أخرى إلى صلاح الأم وإلى سكينة البيت وتقواه وتقوى أهله.
ومازال الطبلاوى يختار اللفظ المبدع المعبر بدقه فى جميع الحالات والذى له دلالات لو تأملتها لاكتشفت الكثير عن تلك الشخصية تأمل (تحسين ضيقاً كطلق الولادة) حين يتحدث عن معاناتها من إخفاقه، وتأمل (يشرق شمساً على وجنتيك) حين يتحدث عن سعادتها بتفوقه.
بحق رحيلك من قبل أن تشهدى لى عروساً
تقبل ما بيت عينيك تدعوك أمى
وتعطيك طفلاً لينهل من نفس نهر الحنان
تضيئين بشرا
تقولين فى لهفة القلب: سمى
مشهد أخر رائع للطبلاوى فبعد أن عدد سمات أمه من خلال تذكره للمشاهد العديده فى حياته ، يمنحنا مشهداً لم يتم ولن يتم مشهداً كان يتمناه .. زوجة صالحة ترضى عنها الأم وتحبها وطفل ينشأ فى حجر جدته وينشأ على يديها – وحمامها – كما نشأ والده.
وهنا يدخلنى الطبلاوى فى إشكالية هامة جداً وهى: هل تزوج وهو كبير فى السن؟ فقد قال فى أول القصيدة أنه ما كان يحسب أن يبكيها فى هذا السن الذى وصل به للمشيب وهنا يقول بأنها فارقت الحياة قبل أن تسعد بعروسه وبطفل ينشأ بين يديها.. لست أدرى لقد وقفت حائراً تحوطنى اسئلة وتفسيرات عديده..منها مثلاً أنه ربما كانت القصيدة تلك وقفة له على قبرها بعد أن بلغ الكبر ويتذكر، ومنها أيضاً أنه تزوج مرات من قبل .. فشلت كلها.. والمرة التى نجحت كانت بعد فراق الأم وبعد ان شاب شعره ..لا أريد التمادى فى هذه التفسيرات حفاظاً على بيت اخى الطبلاوى وربما لو عزمنى على “الغدا” أجد التفسير الأكثر مناسبة هههههههههههههههههه والأمر فى النهاية فى رقبة الشاعر.
أجيبى فؤادى
يقولون أن مثواك تحت التراب
ويقسم قلبى بأنك لى الروح والقلب والذاكرة
فعودى لحضنى
فما عاد قلبى يطيق اصطباراً
لألقاك يا أم فى الأخرة
ينهى الطبلاوى القصيدة بالعودة إلى الحديث لأمه فيؤكد لها أنها رغم بعدها الجسدى تحت التراب لكنها تحيا فى قلبه وروحه وذاكرته، وأنه لم يعد يصطبر على البعاد لموعد اللقاء الأخروى، ويطالبها بالعودة إلى أحضانه، لقد كان طوال القصيدة يقسم عليها بحق الذكريات، وبحق ما كان يحلم به، وبحق .. وبحق.. لما كان يقسم عليها بكل هذا؟ لتعود إلى أحضانه وهو يعلم أن ذاك محال لكنها صدمة الإبن بفقد أمه نبع ذاته.