فى أعقاب الضجة التى أثارتها جريمة حرق المصحف الشريف فى السويد أواخر يونيه الماضى، والدعوات التى انطلقت فى أنحاء العالم الإسلامى لمقاطعة المنتجات السويدية، سارعت السلطات هناك إلى إعلان رفضها وإدانتها لهذه الجريمة الشنعاء، التى لا تعكس ـ حسب بيان الخارجية السويدية ـ موقف الحكومة الرسمى، ولا تعد من حرية التعبير، كما دخل الاتحاد الأوروبى على الخط، مؤكدا فى بيان رسمى آخر أن حرق المصحف أو غيره من الكتب المقدسة عمل استفزازى مهين، لا يعكس آراء الاتحاد الذى يرفض وجود أي مظهر للعنصرية والتعصب وكراهية الأجانب فى أوروبا، ويشجع على التفاهم والاحترام المتبادل بين أتباع الديانات.
ولاحقا أعلنت الحكومة السويدية أنها تبحث وضع قانون لعدم إهانة مقدسات وثقافات الشعوب الأخرى، بعد الأعمال الأخيرة التى تدعمها جماعات يمينية متطرفة تخللتها أفعال لتدنيس القرآن مرتين، كما أعلنت الدنمارك المجاورة الشيء نفسه.
كان هذا موقفا مقدرا بلا شك، أدى إلى وقف التصعيد بشأن الجريمة الشنعاء، خصوصا بعدما اتضح أن الشخص الذى قام بجريمة الحرق فى العاصمة استوكهولم مع مجموعة من مشجعيه هو المهاجر العراقى (سلوان موميكا) الذى يقيم بوثيقة مؤقتة، وأن الحكومة تنظر فى إنهاء هذه الإقامة وترحيله.
لكن صحيفة “الأهرام” فاجأتنا بخبر صادم يوم الثلاثاء الماضى يقول إن السلطات السويدية منحت الإذن لإقامة احتجاج قبالة البرلمان ينوى منظموه حرق المصحف، ونظم التحرك الجديد المهاجر العراقي (سلوان نجم) الذى سبق أن انضم إلى مواطنه (سلوان موميكا) فى تحركين أقامهما الأخير خلال الفترة الماضية، وقام خلالهما بتدنيس المصحف وحرقه أمام أحد المساجد وأمام مبنى السفارة العراقية.
والواضح الآن أن السويد غير جادة فى الالتزامات التى أعلنتها لمنع هذه الموجة الجديدة من حملة الكراهية والإجرام فى حق الإسلام والمسلمين، السويد تعطينا من طرف اللسان حلاوة، لكنها تروغ فى الواقع كما يروغ الثعلب، ورغم خطورة مايحدث هناك فإن الحكومة ليست مدركة لحجم الكارثة التى تتسبب فيها، والتى لاشك سوف تعود عواقبها السلبية على الدولة والشعب، حينما تترك للقوى اليمينية العنصرية الحبل على الغارب تحت شعار حرية التعبير.
لقد أثبتت تجارب الشعوب أن تيارات الكراهية والتعصب من شأنها تدمير الأمم الحية، وأن جريمة إهانة المقدسات تجر إلى مستنقع الفتن والعنف والحروب الأهلية، ومن عجائب زماننا أن الغرب الذى يدعو إلى احترام حقوق الإنسان وحرية الفكر، ويدين ثقافة حرق الكتب مهما بلغت تفاهة محتواها، ويرى فى حرق أي كتاب جريمة همجية بربرية، ويتبرأ من وقائع حرق الكتب التى سجلها التاريخ فى عصوره المظلمة، هو نفسه الغرب الذى لا يجد غضاضة إزاء ثقافة حرق المصاحف، ويفتح أبوابه لكل مسخ موتور يأتى من المشرق أو المغرب ليقوم بهذا العمل الخسيس.
لماذا لا يجرؤ هذان العراقيان على ارتكاب جريمتهما على أرض العراق أو فى أي بلد عربى مسلم آخر؟
والجواب ببساطة أن هذه البلاد قامت على احترام الكتب المقدسة، وأن دينها الإسلامى يكرس لثقافة احترام الأديان على اختلاف أشكالها وألوانها، ولذلك تعايشت فيها الأديان متجاورة على مر الزمان.
فى بلادنا العربية الإسلامية لا نحرق الكتب المقدسة، والقوانين تجرم هذا العمل الشنيع وتفرض عقوبات غليظة على من يرتكبها، وتوفر حماية كاملة لدور العبادة، وتعتبر أي اعتداء عليها جريمة إرهابية تواجه بكل قوة، بل إن القوانين تجرم أي كلام يكتب أو يقال فيه إثارة للكراهية وازدراء الآخر المختلف دينيا أو عرقيا أو طائفيا.
فى بلادنا العربية الإسلامية لدينا احترام دينى وتارخى للأديان، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن استمرار وجود الكنائس والمعابد هو أكبر دليل على إنسانية الحضارة الإسلامية واتساع أفقها، هذه الحضارة التى حافظت على خصوصية الكتب المقدسة ودور العبادة، واحترمت حرية الإنسان / المواطن فى اعتناق العقيدة التى يرضاها لنفسه، من باب ” لكم دينكم ولي دين “، وحافظت أيضا على استمرار وجود الجاليات اليهودية فى بلاد المسلمين، بينما كانت أوروبا إلى مطلع القرن العشرين تكيد للمسلمين واليهود من كل جانب، حتى لا يكون لهم وجود فيها.
لقد فتح أجدادنا المشرق والمغرب، لكنهم لم يحرقوا كتابا مقدسا، ولم يهدموا دارا للعبادة، وهذا هو الفارق الحضارى الذى يجب أن نعتز به ونفخر.