ستظل مساجد آل البيت في مصر علامة فارقة ومميزة
على كل صعيد انساني فكري اجتماعي ديني وحتى سياسي ايضا.. وستظل مصر تزهو بين العالمين باحتضانها هذا العدد الكبير من مقامات ومساجد أهل العترة النبوية الشريفة لتزداد بها تألقا واشراقا .ومن هنا يمكن أن نستشرف آفاق الاهتمام الكبير بهذه المساجد في الجمهورية الجديدة وافتتاح الرئيس عبد الفتاح السيسي للتجديدات الشاملة للمساجد الكبرى التى تزين أرجاء قاهرة المعز وغيرها من المحافظات..
في كل مرة ازور فيها أحد المشاهد المباركة .. سواء الحسيني .. الزينبي.. النفيسي وغيرها اتأمل كثيرا في حالنا وقصور النظرة إلى هذه المنارات الشامخة دينيا وعلميا وادبيا وجماهيريا .. وكيف سقطنا في فخ حصارها في إطار البركة والتبرك والولع بأحاديث الكرامات وخوارق العادات وما شابه وغرقنا في لعبة الموالد التى لا تسمن ولا تغني من جوع رغم موائدها العامرة وصيتها الذائع في الولائم وكل ماقرب إليها من قول وعمل ..( استدراك مهم :لست ضد احياء الذكرى والاحتفال بها ولكن كيف .. حتى لايتهمنا المتهمون وأصحاب النوايا إياها ولا اقول المستفيدون من عموم الفوضى وغياب العقل وربما صحيح الدين أيضا..
مع النقلة المعمارية الجديدة والحديثة الأمل يحدونا في نقلة نوعية جادة لتصحيح تراكمات أزمان وتوجهات ما أنزل الله بها من سلطان ونزعات لبعض فرق ضالة تتمسح بآل البيت وتستدعي تصوفا من نوع ما ..
ونحن قادرون بما تملكه مصر الأزهر من قوة علمية وروحية وقادة في الفكر وعلماء ثقات افذاذ في كل المجالات
وان تزيل ما ران وما علق على استار مساجد آل البيت من غبار قد يمس صحيح الدين والعقيدة وقد يشوه ملامح الصور الجميلة لأخلاق الاسلام في البر والإحسان والتعامل مع المحبين أو قل الدراويش ومن لحقوا بهم ممن يطلقون عليهم المقاطيع .. مقاطيع السيدة نموذجا ..
لابد أن نعترف أن كل مساجد آل البيت محببة إلى جموع المصريين حتى من غير المسلمين ولهم معها حكايات وحكايات تصل حد الكرامات وما فوقها. لكن لبعضها خصوصية في التعلق والارتباط وزيادة محبة مثل نموذج السيدة نفيسة رضي الله عنها..
والسيدة نفيسة هي ابنة الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- جاءت لمصر عام 193هـ، وعاشت فيها حتى وافتها المنية عام 208هـ اي مكثت أكثر من خمسة عشرة سنة ..وحياتها ابتداء من مولدها وحتى مماتها فيه ما يكفي للرد على كل الاتهامات الموجهة للمرأة المسلمة والتى يكيلها العلمانيون ومن قبلهم الغربيون والمستشرقون ومن شايعهم وأدعياء حقوق المرأة وما شابه من شعارات زائفة وخادعة سواء فيما يتعلق بحق المرأة في التعليم تحصيل العلم وتعليمه للناس أو في علاقاتها مع مجتمعها وتفاعلاتها معه في كل شئون الحياة والعمل على الارتقاء به والدفاع عن الحقوق إذا ما تعرض لظلم أو طغيان من الداخل أو الخارج..
فالمرأة لم تكن ابدا رهينة أو ملكا للرجل ولم تكن رهينة المحبسين أو الثلاث محابس أو كما يقولون لا تخرج من دار ابيها الا مرتين واحدة إلى بيت زوجها والأخرى إلى القبر ..
وايضا السيدة نفيسة ومقدم مولدها رد عملي مخرس على من يدعون كراهية المسلم للمرأة أو أن يرزق بمولود انثى .
فقد ولدت السيدة نفيسة بمكة فى 11 ربيع الأول عام 145هجريا وفى يوم مولدها كما يقول المؤرخون وأصحاب السير طغت الفرحة على والديها خاصة والدتها أم سلمى الملقبة ب “أم ولد” لكونها لاتنجب إلا الذكور فقد جاءت السيدة نفسية بعد عشرة من الذكور ففرحت أمها فرحا كبيرا وكان أبوها يتمنى البنت وذلك تيمنا لقول رسول الله صلى عليه وسلم (من كانت له ثلاث بنات يؤدبهن ويكفلهن ويرحمهن وجبت له الجنة.. فسأله الصحابة ولو كانت اثنتين؟ فقال ولو كانت اثنتين؟ فقالوا ولو كانت واحدة فقال النبى ولو كانت واحدة) لذا فعندما زفت البشرى الى والدها بميلاد أنثى أسماها نفيسة لأنها بمثابة الدرة النفيسة والبنت الوحيدة بعد عشرة ذكور..
ويبدو أن البركة قد رافقتها منذ أول إطلالة لها على الدنيا وكانت قدم خير كما يقولون فلم يكد ابن الأنور يبرح مكانه بالكعبة بعد بشرى نفيسة حتى جاءته البشارة الأخرى وهى إسناد ولاية المدينة المنورة إليه مع منحة قدرها عشرون ألف درهم.
عندما سمع بن الأنور بشرى ميلاد ابنته رفع يده الى السماء قائلا “اللهم أنبتها نباتا حسنا وتقبلها قبولا حسنا طيبا واجعلها من عبادك الصالحين وأوليائك المقربين الذين تحبهم ويحبونك” فكانت أبواب السماء مفتوحة والدعاء مستجابا ولازمت الابنة أباها فى نسكه وعبادته وحلقات علمه حتى انتقل بها الى المدينة المنورة وهى فى الخامسة من عمرها فكانت تذهب إلى المسجد النبوى وتستمع إلى شيوخه وتتلقى الحديث والفقه من علمائه حتى لقبها الناس بنفيسة العلم قبل أن تتخطى مرحلة الطفولة وذلك بعدما أتقنت القراءة والكتابة وهى لم تبلغ السابعة وحفظت القرآن كاملا وجودته وهى فى الثامنة.
ومجالس العلم للسيدة نفيسة في مصر أكثر من مشهورة ولم تتوقف دروسها وكان لها رواد كثر ينتظرونها طلبا للعلم وطلبا للدعاء لأنهم كانوا يعتقدون أنها مستجابة الدعوة وأنها مباركة فضلا عن نسبها إلى بيت النبي صلّى الله عليه وسلم..
فقد كانت عالمة وفقيهة لذا سموها بحق بانها «نفيسة العلم»، كانت المعلمة للإمام الشافعى الذي ملأ الدنيا علما وفقها وأدباء وشعرا..
وقد حرص الشافعي عندما وصل إلى مصر سنة 198 هـ، على توثيق صلته بالسيدة نفيسة واعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط وفي طريق عودته إلى داره وكان يصلي بها التراويح في مسجدها في رمضان، وكلما ذهب إليها سألها الدعاء.
وكان الإمام الشافعى إذا مرض يرسل لها رسولا من عنده يسألها الدعاء فتدعو له فلا يرجع إليه رسوله إلا وقد عوفى فلما مرض الشافعى مرضه الأخير أرسل لها رسوله فقالت “متعه الله بالنظر لوجهه الكريم” ورحل الإمام الشافعي بعدها..
وأوصى أن تصلي عليه السيدة نفيسة في جنازته، فمرت الجنازة بدارها حين وفاته عام 204 هـ، وصلّت عليه إنفاذًا لوصيته..
ولابد أن أشير هنا أنه في كل مرة اذهب الى مسجد السيدة نفيسة اقصد إلى مكان الوضوء حتى وإن لم أكن بحاجة وأتوضا وأتذكر على الفور ما قالته نفيسة العلم عن الامام الشافعي وكانت تمتدحه.. أنه يحسن الوضوء !!
وكثير من المرات لا أتمالك نفسي وأسأل هل نحن نحسن الوضوء وكم منا لا يحسن الوضوء ؟!. والتفت حولي مع كل وضوء فأجد مجموعة من محترفي سرقة الوضوء. فمن يتعجل ومن يضرب الوجه .. يطسه بالماء .. ومن يمد رجله سريعا تحت الصنبور ويجري .. واتعجب لمن يسرف في الماء ونحن في أزمة ومن يتعمد المسح على الجوارب حتى في عز الحر وليس مخافة البرد أو ما شابه أو أي سبب..
ومن طريف ما قرأت في تفسير قول النفيسة عن الشافعي
أنه كان يحسن الوضوء أن هذا القول فيه تأكيد وإشارة على انه إذا صحت البدايات وضحت النهايات! وطالما أن الرجل يحسن الوضوء أى أن الله وفقه فى الخطوة الأولى فيكون بذلك وصل إلى المنتهى ..
..في كل مرة وفي الطريق الى مسجد السيدة نفيسة يرافق الزائر القادم من كورنيش النيل بدايات سور مجرى العيون وهو يذكر بموقف عظيم حدث مع نفيسة العلم مع النيل .. وهو أقرب الشبه بما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين بعث إليه واليه على مصر سيدنا عمرو بن العاص برسالة فحواها ما يفعله المصريون مع النيل والقاء عروسه في مياهه ليستمر في الجريان والفيضان.. فأرسل إليه عمر يقول :وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي فألقها في النيل
فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة فإذا فيها ” من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر : أما بعد ، فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك ، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك “..
الموقف مع الفارق.. فقد حدث أن شحت مياة النيل وعندما توقف النيل عن الزيادة فى زمنها حضر الناس الي السيدة نفيسة طلبا للدعاء فدفعت بوشاحها إليهم وقالت القوه فى النيل فلما ألقوه زاد منسوبه حتى بلغ الله به المنافع..
بقي أن نعرف أن المسجد يقع غربي القاهرة بمنطقة تحمل اسم السيدة نفيسة التي كانت تعرف قديما بدرب السباع، ويعد المسجد البداية لطريق ممتد داخل القاهرة لأضرحة آل البيت ومنطقة القرافة الكبرى والصغرى والتى وارى ثراها عدد كبير من الصحابة والتابعين الذين جاءوا إلى مصر مع انوار الفتح الإسلامي وتسمى بالبقيع المصري .. المناظر البقيع في المدينة المنورة على ساكنها افضل الصلاة والسلام.. ويبعد عن المشهد النفيسي بمئات الأمتار أضرحة الإمام علي زين العابدين، والسيدة سكينة بنت الحسين، والسيدة رقية بنت علي بن أبي طالب، والسيد محمد بن جعفر الصادق، والسيدة عاتكة عمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمسجد واحد من أقدم المساجد التي بنيت بمصر وأول مَن بنى مسجد على قبر السيدة نفيسة هو عبيد الله بن السري والي مصر في عهد الدولة العباسية.
وأعيد بناء الضريح فى عهد الدولة الفاطمية وأضيفت له قبة ودوّن تاريخ العمارة على لوح من الرخام، وضعت على باب الضريح، تبين اسم الخليفة الفاطمى المستنصر بالله وألقابه كما أعيد تجديد القبة فى عهد الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله بعد أن حدثت فيها بعض التصدعات والشروخ وتم كساء المحراب بالرخام سنة 532هـ (1138م)، إلى أن أمر السلطان الناصر محمد بن قلاوون أن يتولى نظارة المشهد النفيسي الخلفاء العباسيون.
وجدد المشهد النفيسي في عصر العثمانيين في عهد الأمير عبد الرحمن كتخدا وبني الضريح، والمسجد له مدخل للرجال ومدخل للنساء، وفي داخل المسجد ممر طويل يصل إلى المقام وقد ظل المسجد على تصميمه الذي بدأ عليه بالقرن الثالث الهجري، مع إدخال بعض التوسعات والترميمات في العصور المختلفة..ومنذ يومين افتتح الرئيس السيسي اخر اعمال التجديد والتطوير لتعيد للمسجد رونقه وبهاءه الحضاري ..
والله المستعان..
megahedkh@hotmail.com