إن تحقيق السلام والأمن في المجتمع مقصد من مقاصد الشريعة لأن ذلك يؤدي إلى استقرار النفس ولا أقول في مجتمع الإسلامي فقط بل في أي مجتمع كان لا بد تحقيق هذا الهدف السامي من الشرع.
والفطرة الإنسانية تدعو إلى حياة مسقرة يعيش الناس جنبا عن جنب في حالة السلام والأمن ولا تتحقق هذه السعادة النفسية إذا كانت العلاقة بين الناس مبنية على العدوان والظلم بينهم. فقضية الأمن السلام أمر ضروري في حياة الإنسان لا بد من مراعتها و دفع ما يهدم مقصد السلام الدائم في الشرع .
والطريق لتحقيق السلام في المجتمع ليس سهلا ميسورا بل يحتاج إلى جهد كبير ومن طريق تحقيق هذه الهدف ترسيخ الأخوة بين بني البشر ولا أقصد الأخوة في العقيدة او المذهب او القوم او اللغة بل الأخوة الإنسانية، هذه الأخوة تجمع الناس في أسرة واحدة بغض النظر عن جميع الفواق من جنس أو لون أو لغة.
ومما أدى إلى التباعد والتباغض بين بني الانسان عدم قابليته للتعددية سواء كانت التعددية في المعتقدات او الجنسيات مع أن التنوع والتعدد سنة من سنن الكون يقول الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(الحجرات:13) هذه الأية بينت على أن الناس خلقوا مختلفين أجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم ولكن مع ذلك الإسلام يدعو كافة الناس إلى المبدأ السامي، مبدأ الوحدة الإنسانية ينسبون جميعا إلى أصل إنسان واحد فينبغي أن تكون العلاقة بينهم على أساس التعارف والتآلف والتعاون وليس على التنازع والتخاصم.
وكثيرا ما نسمع من خطباء العصر أهمية الأخوة الإيمانية ولا نسمع عن أهمية الأخوة الإنسانية الا قليلا مع أنهما لا يستغني بعضها عن بعض. الأخوة الإنسانية لا يقل شأنها عن الأخوة الإيمانية كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد الحث عن الأخوة الايمانية في قوله صلى الله عليه وسلم “أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه” ثم أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية الأخوة الإنسانية في قوله: “أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى” فكأنه أراد أن ينبه لنا أن هذين الأخوتين لبنتان أساستين لا تنفكان ولا تفترقان في بناء المجتمع المدني. والإنسان مهما اختلفت اللغات والأوطان والأديان صار إخوانا لا يتميز بعضهم على بعض، كلهم من أصل واحد.
ومن جانب آخر أن الأخوة الإنسانية تؤدي إلى معنى التسامح التكافل والتعاون بينهم ونحن في هذ العصر في أشد الحاجة إلى التسامح الفعال والتعايش الإيجابي بين الناس أكثر من أي وقت مضى. ومن أوضح ما يدل على دعوة التسامح قوله تعالى : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(الممتحنة:8) هذه رسالة قرأنية تدل على أنه لم يمنع المسلمين من البر بغير المسلمين , ما داموا في سلم مع المسلمين وحسن صلة معهم.
و لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم منذ اللحظات الأولى له في المدينة على نشر السماحة والتعاون بين ساكنيها ,ويتضح جليًّا في المعاهدة التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود, أنّ اليهود أمة واحدة مع المسلمين، ولكلّ فئة دينها، وحقّها في إقامة شعائرها، وأنّ على المسلمين نفقتهم، وعلى اليهود نفقتهم، وعليهم جميعاً نصرة المظلوم، والنصح والإرشاد، والدفاع المشترك عن المدينة المنوّرة أمام كلّ من هاجمها من الأعداء.
كما كان صلى الله عليه وسلم حسن المعاشرة والتعامل مع أهل الكتاب؛ يعطيهم العطايا, ويهدي اليهم, ويعود مرضاهم, ويتفقد محتاجهم, ويقوم لجنائزهم، ويحضر ولائمهم ,وكان يقترض منهم؛ حتى توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونةٌ عند يهودي في المدينة. فغرس النبي صلى الله عليه وسلم في عقل المسلم فكرة التسامح في فجر الإسلام لأن فيه دور كبير في نهوض الامة وبناء المجتمع.
وأيضا أن التعاون والتكافل من ثمرة الأخوة الإنسانية كلما شعر في قلبهم أن المستضعفين أخوهم في الإنسانية يزداد استئناسهم للتعاون والتكافل. ومما أكد على هذا المعنى قوله تعالى : وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان(المائدة:2) وإذا كان في قلبهم شيء من التعصب والعنصرية فلا يتحقق التعاون والتكافل إلا لبني قومهم وجلدهم لذلك قام الأخوة الإنسانية تمحو التعصب الحاجز لهدف التعاون والتكافل.
وقال الشيخ محمد الغزالى فى كتابه التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام :” لما عرفنا بإندونسيا دولة مستقلة تحررت من طغيان هولندا, واستردت حقوقها المغتصبة بالحديد والنار. قيل لنا : إننا سارعنا إلى تأييد إندونسيا فى كفاحها الظافر بدافع من التعصب للإسلام. والغريب أن سياستنا سارعوا إلى الدفاع عن أنفسهم أمام الاتهام الخطير الموجه اليهم, فقرروا أنهم لم يقفوا بجانب إندونسيا دفاعا عن الإسلام وانتصارا لأهله, بل احتراما للحق المجرد, واستنكارا للعدوان المجرد, دون النظر إلى وحدة الدين بين مسلمى مصر وجاوه”
إذا من منطلق الأخوة الإنسانية الإسلام كدين السلام يسعى إلى نبذ العصبية التي تسبب الفوضى والتنازع في المجتمع ويدعو إلى روح السماحة لأجل التعايش السلمي والتعاون بين الأمم دون نظر إلى معتقداتهم. والله أعلم.