مع مطلع القرن الحالى أصبحت البشرية على عتبات عصر جديد تبدو بعض ملامحه واضحة من خلال الانفجار المعرفي والتقدم العلمى والتکنولوجى السريع، والانفتاح فکرياً وثقافياً واجتماعياً ومعرفياً، إلى أن ظهرت حاجات جديدة لقطاعات بشرية لديها ميل شديد للمعرفة ورغبة عارمة لفهم الکون وکشف المجهول فيه وکان للتقدم العلمى والتکنولوجى والنمو الاجتماعى والاقتصادى أثره على النظم البيئية؛ وقد أدت أنشطة الإنسان غير الواعية وسوء إدارته للموارد المتاحة إلى الإخلال بالتوازن البيئى، وعليه شهد العالم المعاصر ظهور العديد من التغيرات والأزمات والکوارث البيئية الممثلة فى التلوث بکافة أنواعه (ماء، هواء، تربة، ..)، ونقص الطاقة، وتعقد الأمر حتى أحدث تغيرات مناخية بالغة الخطورة؛ مما هدد بقاء البشر، وليس ذلک فحسب بل امتد ليهدد سلامة الأرض وتنوع الحياة البيولوجية عليها، کما هدد حقوق الأجيال القادمة؛ وکنتيجة لذلک أولت العديد من الدول والمنظمات العالمية اهتمامها بما يسمى بـ”التنمية المستدامة”، وذلک لمجابهة الخطر البيئى الذى بات يهدد بقاء الحياة على کوکب الأرض.
وتعود فکرة التنمية المستدامة إلى السبعينيات من القرن الماضى، حيث قدم التقرير الأول المنبثق عن نادى روما بعنوان:” حدود النمو” عام 1970، ويعنى فرضية الحدود البيئية للنمو الاقتصادى، محدداً بذلک نقاشات حادة بين النشطاء البيئيين وأنصار النمو، وبعد ذلک أصدر الاتحاد الدولى لحماية الطبيعة تقريراً بعنوان: ” الاستراتيجية العالمية للمحافظة على الطبيعة؛ وترتب على ذلک إزالة الفوارق المتناقضة بين البيئة والتنمية، وعُرفت آنذاک باسم ” التنمية الملائمة للبيئة”، والتى أقرتها الأمم المتحدة عام 1972، وبموجب ذلک أصبحت التنمية الاقتصادية ملائمة للعدالة الاجتماعية وللحذر البيئى وبرز مفهوم التنمية المستدامة کأحد المفاهيم الأساسية فى أدبيات التنمية فى الثمانينيات من القرن العشرين، وبدأ يزداد شيوعاً عندما نُشر تقرير براندتلاند Brundtland عن مستقبلنا المشترک Our Common Future عام 1987م، والذى عرف التنمية المستدامة بأنها:” التنمية التى تلبى احتياجات الحاضر دون المساومة على قدرة الأجيال المقبلة فى تلبية احتياجاتهم ، وقد أشار هذا التقرير إلى عدة نقاط؛ أهمها: – وحدة المصير العالمى على کوکب الأرض، ووحدة المجال الحيوى.
لقـد اعتبرت التنميـة المسـتدامة مطلب ـا جماهيريـا بإمتيـاز لاسـيما تلـك المسـاعي الراميـة لإرسـاء حقـوق الأجيـال القادمـة ،و قـد عمـدت كـل هياكـل الدولـة و مؤسسـاēا كـل مـن مكاĔـا بالمسـاهمة الجـادة في تحقيقـه، و لعـل أبـرز هـذه الهياكـل و المؤسسـات و الـتي أخـذت على عاتقها هذه المسـاهمة الجـادة في تجسـيد التنميـة المسـتدامة علـى أرض الواقـع الجامعـة.
فالجامعـة و مـن خـلال طاقاتها و إمكانياتها و لاسـيما البشـرية منهـا طلبـة و أسـاتذة و بـاحثين ضـف إلى الإمكانيـات الـتي تحوزهـا مـن هياكـل ومخـابر بحثيـة و بـرامج تعليميـة و أكاديمية كل هذا ساهم و بأدوار متفاوتة في تجسيد التنمية المستدامة. لعل الجامعة أكثر من أي مؤسسة تعليمية أخرى تحظى بمكانة كبرى عند العديد من الباحثين و المنظرين للتنمية المستدامة فهي آخر حلقات التعليم و التكوين و الـتأهيل من حيث المخرجات لسوق العمل ضف لمختلف الأبحاث العالية المستوى و التي من شأن ا المساهمة الجادة في هذا الموضوع الذي يؤطره أساتذة و باحثين أكاديميين من أعلى مستوى، و من خلال أبحاث جادة توجت بالنور من خلال مقالات علمية و كتب جامعية و مقررات ندوات علمية و ملتقيات وطنية و تخصصات جديدة أضيفت امل التخصصات التي تشرف عليها الجامعة ضمن نسق متكامل يضمن إشباع متطلبات سوق الشغل في مختلف التخصصات و الميادين و يضمن أيضا تكامل هيكل التنمية المستدامة من عدة أطراف أيضا و منها الجامعة
تتيح أهداف التنمية المستدامة فرصة ً هامة أمام المنطقة العربية للارتقاء بجامعاتها لتكون ضمن المؤسسات الرائدة على مستوى العالم. انضمت أكاديمية المبادرات الدبلوماسية إلى شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، ووافقت مشكورة على استضافة مركز التميز ألهداف التنمية المستدامة في المنطقة العربية )SDGCAR). وفي هذا الشأن، تسعى أكاديمية المبادرات الدبلوماسية وشبكة حلول التنمية المستدامة للتعاون مع الجامعات الرائدة على مستوى المنطقة العربية لتعزيز الأبحاث والتعليم وتحليل السياسات وتوفير حاضنات العمال ألهداف التنمية المستدامة في مختلف أرجاء العالم العربي. الجامعات لها مكانة فريدة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ فهي المؤسسات الرئيسية المعنية على الصعيد العالمي بإنتاج المعارف العلمية والتكنولوجية والاجتماعية، ونشر هذه المعرفة بين الأجيال القادمة، وتحليل قضايا السياسات العامة خارج الإطار السياسي والجامعات أيضا هي التي يتدرب فيها المعلمون والذين يقومون بدورهم بتعليم الأطفال في المدارس الأساسية والثانوية، وهي التي تتولى تأهيل المهندسين والعلماء إدارة شركات التكنولوجيا المتقدمة وتشخيص التحديات التي تواجه مجتمعاتهم فيما يخص الركائز الثالث للتنمية المستدامة وهي: التنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والمستدامة البيئية. المنطقة العربية في موقع يؤهلها للاستفادة من جهود عبر وطنية مكثفة لرفع مستوى الجامعات في مناطق العالم في مجال الأبحاث والتعليم وتحليل السياسات
دور التعليم العالي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة
أولاً- مفهوم التنمية المستدامة :
هناك وجهات نظر عديدة في وضع مفهوم للتنمية المستدامة ، إذ يراها البعض أنها قضية تنموية وبيئية فضلاً عن كونها قضية أخلاقية وإنسانية مصيرية ترتبط بالحاضر والمستقبل ، هذا يعني أن التنمية المستدامة هي التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها .
ثانياً- أهداف التنمية المستدامة :
تهدف التنمية المستدامة إلى الحفاظ على خصائص إدارة الموارد الطبيعية المتجددة لتحقيق نوعية حياة أفضل للسكان من خلال تحسين الظروف المعيشية للمواطن ومراعاة كفاءة توزيع عائدات النمو الاقتصادي على وفق أنماط استثمارية عالية الجودة دون الضرر والإخلال بالتوازن البيئي والحفاظ على استمرارية الموارد الطبيعية .
هذا يعني أن التنمية المستدامة تسعى لتحقيق التوازن البيئي بالمحافظة على البيئة لغرض سلامة الحياة الطبيعية وإنتاج الثروات المتجددة والاستخدام العادل للثروات غير المتجددة بفضل زيادة الوعي السكاني بالمشكلات البيئية القادمة وتنمية احساسهم بالمسؤولية اتجاهها عن طريق نشر ثقافة المشاركة الفعالة في إيجاد حلول مناسبة وإشراكهم في عملية وضع الحلول وفي إعداد وتنفيذ ومتابعة وتقديم البرامج ومشاريع التنمية المستدامة .
ثالثاً- التكنولوجيا الحديثة :
ينبغي أن لا ننسى عمليات توظيف التكنولوجيا الحديثة لخدمة أهداف المجتمع من خلال توعية السكان لغرض تحسين نوعية حياة المجتمع وتحقيق أهدافه المنشودة وتحقيق النمو الاقتصادي بالمحافظة على الرأسمال الطبيعي (الموارد الطبيعية والبيئية) الذي بدوره يتطلب بنى تحتية ومؤسسات وإدارة ملائمة لمواجهة التقلبات وتحقيق المساواة في تقسيم الثروات بين الأجيال المتعاقبة .
رابعاً- أبعاد التنمية المستدامة :
أ- البعد الاقتصادي :
تتعلق التنمية الاقتصادية بالإنتاجية من خلال تقديمها للمجتمع إنتاجية جديدة أفضل ورفع مستوى الإنتاج عن طريق خلق تنظيمات أفضل والتغيير نحو الأحسن لزيادة الطاقة الإنتاجية بتنمية الإمكانات المادية والبشرية لإنتاج الدخل الحقيقي في المجتمع وخلق الترابط بين الأنظمة والقوانين المحلية والعالمية ، أما عناصر ومقومات التنمية الاقتصادية فهي :
- إحداث التغيرات في الهيكل والبناء الاقتصادي .
- إعادة توزيع الدخل لصالح الطبقة الفقيرة .
- ضرورة الاهتمام بنوعية السلع والخدمات المنتجة وإعطاء الأولوية للأساسيات .
ب- البعد الاجتماعي :
يهدف لتطوير الناس والمجتمعات بطريقة تضمن تحسين الظروف المعيشية والصحية من خلال تحسين مستوى الرعاية الصحية والتعليم فضلاً عن إشراك المجتمعات في صنع القرارات التنموية التي لها التأثير المباشر على حياتهم آخذين بنظر الاعتبار الإنصاف والمساواة للأجيال في الوقت الحاضر والمستقبل في الحصول على الموارد الطبيعية والخدمات الاجتماعية وتحسين فرص التعليم والرعاية الصحية ، ومن آثار البعد الاجتماعي : - السيطرة على النمو السكاني من أجل تحقيق توازن بين حجم السكان والموارد المتاحة .
- تفعيل التنمية الريفية النشيطة باتخاذ التدابير اللازمة لتقليل الزحف نحو المدن .
- ضرورة إيصال الخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم لمساعدتهم على حماية الغابات وموارد التربة والتنوع البيولوجي .
- دعم الشباب وبناء قدراتهم في التعليم والتدريب والإدارة السليمة والاستثمار .
- تكافئ الفرص بين الرجل والمرأة لضمان مشاركتهم بفعالية في صياغة القرارات ورسم السياسات.
ج- البعد البيئي :
يهدف هذا البعد إلى الحفاظ على موارد البيئة الطبيعية والاستخدام الرشيد والأمثل للموارد القابلة للنضوب والبحث المستمر لإيجاد الحلول الكفيلة من الاستهلاك غير المبرر وغير الرشيد فضلاً عن الحد من العوامل الملوثة للبيئة ، وهذا ما يسمى الاقتصاد البيئي الذي أشار إلى توظيف البيئة المادية بعيداً عن التلوث ونشر الوعي البيئي والاجتماعي لحماية البيئة من التلوث والاستنزاف للمحافظة على تنوع الأحياء .
د- البعد المؤسساتي التقني :
تُعنى التنمية المستدامة بالتكنولوجيا النظيفة والمُحسنة بغرض التقليص من استهلاك الطاقة وتقليل الملوثات عن طريق استثمارات كبيرة في التكنولوجيا المكتسبة (استثمارات التعليم والتنمية البشرية) بإيجاد مصادر طاقة بديلة .
خامساً- دور التعليم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة :
ظهر مؤخراً دور مهم للتعليم (بالخصوص التعليم العالي) بضرورة دراسة أهداف التنمية المستدامة عن طريق زيادة وتوجيه البحوث العلمية المتخصصة لغرض تحقيق أهداف التنمية المستدامة باعتبارها الرافد الحقيقي للعلوم والتكنولوجيا وتهيئة وتطوير أجيال متهيئة للحاضر والمستقبل ولكافة الاختصاصات ، ويتمثل هذا الدور في الآتي : - توجيه البحوث لدراسة الفقر ولإيجاد الحلول والفرضيات المناسبة للتخفيف من الفقر باعتباره تحدي يواجه العالم بأسره .
- توجيه البحوث لتحقيق غرض استدامة موارد البيئة والاعتناء بالجانب البيئي والحفاظ على الموارد المتاحة واستدامتها .
- إيجاد الحلول المناسبة للمساهمة في ترشيد استهلاك المواد الخام وديمومة الإنتاج وتحسين الطاقة .
- دراسة وجود وتشييد المدن والمستوطنات البشرية الحضرية الحديثة والنقل المستدام .
- دراسة مشاكل المتغيرات الديموغرافية والتنمية السكانية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية .
- البحث عن طرق وأساليب التثقيف والتوعية المجتمعية وتزويدهم بالمعلومات المتعلقة بالتنمية المستدامة .
- توجيه البحوث العلمية لتحقيق الاستجابة إلى متطلبات تحقيق أهداف التنمية المستدامة .
- دراسة وتحديد الصعوبات والمخاطر التي ستواجه عملية تنفيذ برامج وأهداف التنمية المستدامة .
- المشاركة البحثية الفعالة في دراسة وقياس الجهود الوطنية وجهود التنظيمات المجتمعية الدولية .
ختاماً لا بد من وجود استراتيجية موضوعة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ويتم العمل على وضع آليات لتقييم هذه الاستراتيجية ووضع معايير للتقييم بما يتلائم والبيئة الوطنية للبلد مع ضرورة الاستفادة من تجارب الدول الأخرى من خلال إشراك أساتذة الجامعات والكليات والخبراء الوطنيين وأصحاب المصلحة (أفراد المجتمع) .