كل العجب العجاب، صرنا نراه حولنا في هذا العالم المسمى بـ “الافتراضي”.. مصيبة وحلَّت، وأصابت عقولنا قبل عيوننا هذه الأيام بـ “الحَوَل”.. كدنا إن لم نكن قد فقدنا فعليًا وكليًا “حاسة الاندهاش”.
حقًا ما الذي يجري في هذا “الفضاء الإلكتروني” ؟!.. كيف أعاد تمامًا صياغة تفكير ونمط حياة أهل الأرض، بهذا الشكل السخيف، وهذا العمق المخيف، وفي سنوات معدودة على الأصابع ؟!.. ماذا دهانا ؟!.. ومَن كل هؤلاء الذين أصبحوا يمتهنون اللا شيء و”يكسبون من الهوا”، ويتاجرون بنا، وبكل شيء، وأي شيء، وأكثرهم يقبضون أجورهم “من العدم”، وبالعملة الصعبة، وبلا حساب ؟!
يؤسسون سواءً عن قصد من غيرهم وبعلمهم هم، أو بدون قصد من أغلبهم أو تنسيق بينهم، لصناعة “التفاهة”.. ويُرسخون ويسوقون كالقطيع قطيعًا إلى ثقافة “الفهلوة”، ويُشيعون بغباء مبدأ اللا مبدأ، وينشرون قاعدة “إللي تكسب به العب به”، دون وازع من عقل، أو ضابط من منطق، أو رادع من ضمير، أو حتى أدنى وعي أو فهم لما يقودون المجتمع إليه، ويُلهون الناس به.
شغلهم الشاغل، والمهم والأهم بالنسبة إليهم هو “عدَّاد اللايك والشير والفيوز “.. قليلون جدًا و”سوقهم مش ماشي” أولئك الذين يعنيهم ويقدمون المحتوى الجاد، المبني على بحث وفكر ومضمون وهدف وغاية نبيلة.. و”أكتر من الهم على القلب” هؤلاء “البهلوانات” المنتشرون على “السوشيال ميديا”.. كلامهم وموضوعاتهم “على كل شكل ولون”.. وتكاد تبهت على أيديهم أفكار وقناعات واهتمامات أجيال، من سن الطفولة “غرس المستقبل”، وصولًا إلى عمر الشباب “زهر العطاء”.
“هُمُ العدو فاحذرهم”.. أي خطيئة أخطر من صَرف الناس عن الجدية إلى الخواء ؟!.. وأي كبيرة أكبر من تحويل الفكر من العمل الجاد إلى “الاستسهال” ؟!.. وأي خيبة أشد من أن يُفسَح المجال، بدون ضوابط أو قواعد، لكل “مّن هب ودب”، كي ينشئ ويدير قنوات، ويكون لهم شاشات ومتابعون بالآلاف والملايين، وأن يتصدر منصات هذا الإعلام الجديد مجموعة من الهواة، أو الجهلة، والسفهاء، ويصبحوا نجومًا ومشاهير ونماذج يتأثر بهم متابعوهم، ويحاولون تقليدهم، ويسيرون على دربهم، ويحلمون بالوصول إلى ما وصلوا إليه، والفوز بما سبقوهم إلى الفوز به والحصول عليه، من مال سهل، وعمل سهل، ومعيشة سهلة، في الزمن الصعب.!
وفي الوقت الذي لا يتعدى ما تحصل عليه المحتويات الجادة والمدروسة والمُعدَّة جيدًا، في العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والصحة والدين والتنمية البشرية… إلخ على مئات، أو – على أفضل الأحوال – آلاف المشاهدات والتفاعلات والمشاركات، يصب نحو ٩٠% من الإقبال والمتابعة، و”المكسب من الهوا”، باتجاه “تجار التفاهة”، والمتعمقون في السطحية، على منصات وتطبيقات “السوشيال ميديا”.
نعم، لا صوت يعلو فوق صوت الكلام “الفارغ”.. المريدون الإلكترونيون بالملايين للمقالب، و”ألعاب الأحكام”، ومهارة “تحريك الشفايف” على الأغاني المعروفة، و”الروتين اليومي” سواء لربات البيوت، أو للزوجين “فلان وفلانة”.. علاوة على المئات من الذين يخطفون أذهان الأطفال بالساعات يوميًا.. يحصدون على حساب الصغار ملايين المشاهدات.. وكل ما يفعلونه أنهم يلعبون أمامهم.. ويدربونهم على “الجيمز أون لاين”!
اللافت جدًا للانتباه كذلك، هم أولئك الذين “دخلوا على الخط”، وقرروا فجأة – وبدون أي مؤهلات – أن يكونوا أساتذة يفتون في شئون الاقتصاد و”رايح على فين”.. وخبراء تغذية و”ريجيم”.. ومتحدثين في “الطب النبوي”.. ومتخصصين في “الطب البديل”.. ودعاة ورقاة شرعيين.. “أيوة كده كله بالفكاكة والمفهومية، وهي دي برضه عايزة شهادة”.. كثيرون كذلك في “يوم وليلة” صاروا نقادًا رياضيين “بيجيبوا التايهة”، ويكشفون كواليس الأندية، وأسرار صفقات اللاعبين، ويدلون بدلوهم في “أي هبد يجيب فلوس”!
في تصوري، أكبر الخسائر ليست ممارسة هؤلاء لأنشطة لا تعود على الدولة بأي نفع ثقافي أو اجتماعي أو حتى اقتصادي يتمثل في عائد ضريبي شأنهم في ذلك شأن غيرهم من أصحاب المهن والوظائف ومجالات العمل المعروفة.. لكن الخسائر الحقيقية أنهم قد يسلبون المجتمع شيئًا فشيئًا أعز ما يملك.. تلك الجدية في أن يصبح كل منا “قيمة مضافة” لبلده.. لبنة في البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضًا في مشروع المستقبل، الذي لا يمكن أن نشيده إلا بالجهد والعرق، والعقل المستيقظ، والفكر السليم، والوجهة الصحيحة، والإيمان بفكرة، والعقيدة المبنية على هدف قومي واحد وواضح.
لم آتِ هنا على ذِكر ما يتهددنا قبل ذلك، وأشد من ذلك، من منصات متعددة ومشبوهة ومأجورة على نفس “السوشيال ميديا”، وتديرها الجماعة الإرهابية بدقة وخداع شيطانيين، وبمنتهى الوضاعة والخِسة، سواء عبر وجوه مكشوفة ومحسوبة على “الإخوان المتأسلمين”، أو بأخرى جديدة تخفي خلف ملامحها “أيديولوجيتها”، وصِلتها المباشرة بالجماعة، أو بمَن يشاركونها ذات الأهداف المعادية، ويستخدمونها ويمسكون ب “ريموتها” ويحركونها هي والمنتمين إليها ب “ضغطة زر”.
يا سادة، آن الأوان أن نتنبه إلى خطر أولئك، ومخططات هؤلاء.. لا يستقيم أن ننصرف عن قضايانا الجادة، وننشغل ب “صُنَّاع التفاهة”، ونساعدهم بمتابعتنا لهم – ولو من باب التسلية وملء الفراغ – على أن يستمروا ويتناسلوا كل يوم.. كما – وهو الأهم – لا بد أن نتنبه إلى هذه “الفخاخ الإلكترونية”، والألغام التي تزرعها الجماعة الإرهابية وكتائبها في هذا “العالم الافتراضي”.
دعونا نركز كل اهتمامنا على قضايانا الجادة.. نعيش على الأرض أكثر مما نقضي أوقاتنا في “الفضاء الإلكتروني”.. يصبح كل منا “قيمة مضافة” لاقتصاد البلد.. ومستقبل البلد.. وحلم البلد.. ونقطع بوعينا ويقظتنا الطريق على على التافهين الذين “يأكلونها والعة”.. والخائنين الذين “يريدونها والعة”.
mhamid.gom@gmail.com