ستة قرون تقريباً هي المدة الفاصلة بين الرسالة النبوية، التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وآخررسالة سماوية لأهل الأرض، حملها كلمة الله ونبيه ورسوله سيدنا عيسى عليه السلام، الذي جاء بالإنجيل، وفي هذه المدة الفاصلة كانت الأرض قاطبة، تخلو من بشير أونذير أو نبي أو رسول..فلذلك سميت هذه الحقبة الزمنية بـ (الفترة) ومن عاش فيها كان من أهل الفترة، وهم الذين لم تصلهم دعوة رسول، لأن الرسول كان يرسل إلى قومه أو قريته ، فحسب ، بخلاف رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي كانت رسالة عامة لكل من في الأرض أجمعين ، فالذين عاشوا في تلك الفترة ، غير محاسبين عن إيمان أو كفر ، لأنهم لم يُبَلَّغُوا بأي رسالة ، والحق جل شأنه يقول في محكم تنزيله في سورة الإسراء: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ومن هنا فعبدالله بن عبدالمطلب ، والد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة ، لأنه مات، والنبي صلى الله عليه وسلم جنين في بطن أمه، والسيدة آمنة بنت وهب ، والدة النبي صلى الله عليه وسلم ، من أهل الفترة ، لأنها توفيت، وعمر النبي صلى الله عليه وسلم ست سنوات ، وعبدالمطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة ، لأنه مات، وعمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثمان سنوات، وقد صنف العلماء المصنفات فى بيان أن والدا النبي صلى الله عليه وسلم ناجيان وأنهما من أهل الجنة، منها: رسالتا الإمام السيوطي “مسالك الحنفا فى نجاة والدَى المصطفى” و”التعظيم والمِنّة بأنَّ والدَى المصطفى فى الجنة”.
وعلى بعض أقوال العلماء أن هناك امتحان يوم القيامة لأهل الفترة وإذا امتُحِنَ والدا النبي صلى الله عليه وسلم سيكونان من أهل الطاعة والإذعان والإيمان ، قال الحافظ ابن حجرالعسقلاني: “إن الظن بهما أن يطيعا عند الامتحان”.
لأنهما لم يثبت عنهما شرك، ولا ارتكاب رذيلة ، فهاهي المرأة التي رأت النور على جبين عبدالله ، تدعوه ليعاشرها، حتى لو بالحرام ، ولكنه يأبى ويرفض ، وينشد شعراً :
أما الحرام فالممات دونه والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه
وإن مارأته السيدة آمنة من معجزات قبل ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها ، أكبر دليل على أنها لوعرضت عليها دعوة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لما ترددت في اتباعه والإيمان بدعوته، ولقد ذهب إلى هذا القول جمعٌ من العلماء منهم الفخر الرازي فى كتابه “أسرار التنزيل”.
ويقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما فى تفسير قوله تعالى في سورة الضحى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) قال: “مِن رِضا محمد صلى الله عليه وسلم ، أن لا يَدخُل أحدٌ مِن أهل بيته النار”.
وهناك قول بأن الله تعالى أحياهما له ودعاهما صلى الله عليه وسلم فآمَنا به، وهذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة مِن حفاظ المحدِّثين وغيرهم، منهم: الخطيب البغدادي، وابن شاهين، وابن المُنَيِّر، والمحب الطبري والقرطبي، واحتجوا لمسلكهم بأحاديث ضعيفة، ولكنها ترقى إلى الحسن بمجموع طرقها.
ويذكر أن القاضيَ أبا بكر بن العربي أحد أئمة المالكية، سُئِل عن رجل قال: إنّ أبا النبى صلى الله عليه وسلم فى النار، فأجاب بأن مَن قال ذلك فهو ملعون؛ لقوله تعالى في سورة الأحزاب : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) وأردف القاضي أبو بكر بن العربي: “ولا أذًى أعظم مِن أن يقال عن أبيه صلى الله عليه وسلم إنه فى النار”.
وفي تلك الفترة كانت الوثنية وعبادة الأصنام تعم جزيرة العرب ، وعلى الأخص أهل قريش في مكة ، ومع ذلك كان هناك عقلاء رفضوا عبادة الأصنام، وكانوا يبحثون عن منقذ لهم، فهذا زيد بن عمرو بن نفيل، الذي نبذ عبادة الأصنام ، وكان يعبد الله على الحنيفية الحقة التي جاء بها سيدنا إبراهيم عليه السلام ، كان قد خرج إلى الشام يبحث عن الحقيقة، فإذا بأحد أحبارالشام يقول له: قد خرج في بلدك نبي ، فارجع فصدقه واتبعه ، ورجع زيد ، وقد اطمأن قلبه ،ولم يكن زيد بن عمرو هو الوحيد في مكة ، الذي كان يبحث عن الدين الجديد ، والنبي الذي يأتي برسالة من عند الله تعالى ، فقد كان معه ثلاثة نفر ، وهم عثمان بن الحويرث الذي ذهب إلى الشام ، وتنصر هناك ، ومات مسموماً ، و ورقة بن نوفل الذي كان على الحنيفية ، فقد كان يستقبل القبلة ويقول :
إلهى إله زيد ، ودينى دين زيد ، مع تبصره بكتب الأقدمين ، حيث تعمق في اليهودية والنصرانية، ومات في أول الرسالة النبوية ، كما أورد الإمام نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي صاحب كتاب كشف الأستار ، ومما قاله ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم حين علم أمره: يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً ، إذ يخرجك قومك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم ، قال: نعم :, لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، و إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
وأما عبيدالله بن جحش رضي االله عنه ، فقد انتظر في مكة مترقباً ، وما أن أعلن النبي صلى الله عليه وسلم دعوته ، حتى لحق به ، وكان من السابقين إلى الإسلام ، وفي السنة الخامسة للبعثة حظي بشرف الهجرة إلى الحبشة، ومعه زوجته السيدة رملة بنت أبي سفيان ، وهناك توفي .
هذا كان حال الذين يبحثون عن الدين الحق ، ونبي آخر الزمان، ولأن الله سبحانه أراد الخير للبشرية جمعاء ، فقد أرسل إليهم حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، لينتشلهم من مستنقع الجهل و والأوثان ، إلى جنات النعيم ورياض الإيمان .
ففي عام الفيل كان الإكرام الرباني على جميع الخلق ، والدنيا بأكملها ، والعالم بأسره ، بإشراقة الحبيب المصطفى ، ومولده الشريف، فقد جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأصنام ، إلى عبادة الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ،والحق جل شأنه يحكي عن حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، في محكم تنزيله في سورة الأنبياء بقوله سبحانه : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
وهذه الرحمة لا تخص المسلمين فحسب، أو المؤمنين فقط ؛ بل تعم جميع المخلوقات، فمن آمن كُتبت له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن عُوفِيَ مما أصاب الأمم من العذاب ، وما بعث الله حبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم إلا لإنقاذ البشرية من ضلالات الجاهلية، وبراثن الكفر والشرك ، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للإنسانية جمعاء.
ويقول الحق جَلَّ شأنه في محكم تنزيله في سورة الأنعام : (.. الله أعلم حيث يجعل رسالته.. ) يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره : الله تبارك وتعالى، هو أعلم حيث يضع رسالته، ومن يصلح لها من خلقه، فأصحاب التفكير القاصر ، كانوا يرون أن أحد الرجلين من مكة أو الطائف ، وهما الوليد بن المغيرة المخزومي ، وعروة بن مسعود الثقفي ، هما أجدر من في جزيرة العرب قاطبة ، لتكون الحظوة بتكريم الله سبحانه، لواحد منهما بشرف النبوة ، وسمو ورفعة وسؤدد الرسالة ، والمولى سبحانه سفَّه رأيهم ، وحقَّر فكرهم، وازدرى طرحهم ، بقرآن يتلى إلى يوم القيامة ، فقال أصدق القائلين ، في سورة الزخرف:( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم* أهم يقسمون رحمة ربك ) إن من له هذا الحق، هو الحكم العدل جَلَّ جلاله ، الذي جعل المكرمة العظمى، والمكانة الكبرى ، للحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، قبحهم الله، فقد كانوا ينتقصون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمه ، وفقره ، بغياً وحسداً ، وعناداً واستكباراً ، فقد قال تبارك و تعالى مخبراً عنهم في سورة الفرقان : ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوًا أهذا الذي بعث الله رسولًا
ولكنهم على الجانب الآخر يعترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة معدنه، وكريم أصله، ونقاء سريرته ، حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه : ” الصادق الأمين ” ، وقد اعترف بذلك أبو سفيان ” حين سأله ” هرقل ” ملك الروم في هدنة الحديبية في أواخر السنة السادسة للهجرة النبوية المباركة، حين كان في تجارة بالشام : كيف نسبه فيكم؟ قال : هو فينا ذو نسب .
قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان : لا .
ومن إجابات أبي سفيان – وهو على الشرك آنذاك ، لأنه أسلم ليلة فتح مكة في رمضان في السنة الثامنة للهجرة – على أسئلة هرقل عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، كاد هرقل أن يسلم ، ولكن حب السلطة والملك منعاه، فقد قال لأبي سفيان: إن يكن ما تقول فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
وهذا الأخنس بن شريق يقول يوم بدر لعمرو بن هشام (أبو جهل): يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري، وغيرك يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش ، فحتى المشركين لايكذبون رسول الله ، ولكنهم يكذبون ماجاء به ، يقول رب العالمين في سورة الأنعام : (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)
ونحن المسلمين نحتفل بالحبيب صلى الله عليه وسلم في شهر مولده في شهر ربيع الأنور، باقتفاء أثره ، واتباع شريعته ، والسير على منهجه ، والاقتداء بسنته ، فالحق جل شأنه يقول في محكم تنزيله في سورة آل عمران على لسان حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)
وقد أورد الإمام الترمذي في سننه عن الطفيل بن أُبَي بن كعب عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه، قال أبي: قلت، يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي، فقال ما شئت، قال: قلت الربع، قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: النصف، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قال: قلت فالثلثين، قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، قلت أجعل لك صلاتي كلها، قال إذن تكفى همك ويغفر ذنبك.
قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، وأما معنى قوله: (فكم أجعل لك من صلاتي)، : معناه أكثر الدعاء، فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك، (قال: ما شئت)، أي اجعل مقدار مشيئتك، قوله: (قلت أجعل لك صلاتي كلها)، أي أصرف بصلاتي عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي، (قال إذن تكفى همك)، والهم ما يقصده الإنسان من أمر الدنيا والآخرة، يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة عليَّ، أعطيت مرام الدنيا والآخرة.
وأقرب الناس إلى محبة الله، ونيل مغفرته، أكثرهم اتباعاً لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن علامة صدق حبك لربك اتباع نبيك صلى الله عليه وسلم، فبقدر اتباعك للنبي صلى الله عليه وسلم تكون منزلتك عند الله ، وإن من أعظم علامات المحبة الصادقة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فبالصلاة عليه نرتقي ، وبالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم نسمو إلى أعلى الدرجات، لنحظى بمقام رفيع في الفردوس الأعلى، بصحبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .