غدا يوم السادس من اكتوبر ..خمسون عاما على شروق شمس الانتصار العظيم..اكبر واجمل واقوى انتصار على العدو الصهيوني.. يقولون روح اكتوبر واقول روح كل مصري سواء المقاتل على خط النار او المقاتلين والمجاهدين على الصفوف الاخري امامية وخلفية وجانبية وغيرها..
وروح المصري هي النتيجة والدرس الاول والقاسي الذي استخلصه جميع القادة العسكريين والمحللين الاستراتيجيين الذين صدموا وفوجئوا بنصر اكتوبر وذلك التحدي الكبير لكل القوى على الساحة العسكرية والسياسية..تلك الروح التى فرضت قواعد جديدة في لعبة المواجهة على الارض وفي الساحات الاخرى التابعة والمتتابعة بعد ذلك.
روح المصري وقدرته على التحدي وتحقيق العبور الحقيقي كانت الشغل الشاغل لقادة العدو ومن والاهم لم يجدوا بدا او غضاضة من الاعتراف بانهم اساءوا التقدير والفهم للروح المصرية وان حساباتهم توقفت عند عوامل التفوق المادي وامتلاك احدث انواع الاسلحة واعماهم غرور القوة عن ان يدركوا معنى كلمة مصري ومعنى احتلال وطن..وهو الامر الذي كشف عنه بوضوح موشي ديان عقب هزيمة 67 حين وقف على الضفة الشرقية للقناة وظن ان المانع المائي وخط بارليف قد ضمنا للعدو حماية لايمكن تجاوزها ومعهم السلاح الامريكي في احدث طبعاته..وقال كلمته المشهورة:هل هناك خط حماية اقوى وابعد من ذلك.. فغرتهم الاماني وتلبسهم الغرور ولم يفوقوا الا على ضربات الزلزال المدمر في اكتوبر المجيد بحسب وصف كبرائهم ومن علموهم السحر..
لفت انتباهي الاحتفاء الاسرائيلي في الذكرى الخمسين لانتصار اكتوبر العظيم بالعربي ويوم كيبور بالعبري بتصريحات داهية وثعلب الدبلوماسية الامريكية العجوز د.هنري كسينجر والدور الذي لعبته امريكا في انقاذ اسرائيل وهي على حافة الانهيار الكامل والهزيمة الساحقة في الثلاثة ايام الاولى للمعركة..
ففي اسبوع واحد اجرت معه صحيفتان اسرائيليتان مقابلتين عن حرب اكتوبر..الاولى صحيفة معاريف الجمعة 22 سبتمبر وبعد اربعة ايام صحيفة جيروزاليم بوست يوم 26 وكان التركيز على دخول امريكا الحرب بشكل كلي الى جانب اسلرائيلي والخداع الذي مارسه كيسنجرعلى الصعيد الدبلوماسي والعسكري وكيف اجبر قادة امريكا..نيكسون وفورد على الانضمام بشكل جدي وعملى للمعركة وقد نجح في ذلك ايما نجاح بفضل اساليب المراوغة والمكر والخديعة..وانتصر فيها بشكل لا مثيل له ليهوديته على حساب كل مبادئ القيم والاخلاق بلا ادنى حرج او حساسية.
احاديث كيسنجر المراوغة اجبرتني على العودة الى شهادات كبار القادة العسكريين في جيش العدو انفسهم واعترافتهم الواضحة بالهزيمة وشهاداتهم الموثقة سواء في مذكراتهم الشخصية او امام لجنة التحقيق التى شكلت خصيصا لبحث اسباب الهزيمة والانتصار المصري الساحق في يوم كيبور وهي اللجنة المعروفة باسم لجنة جرانات.وشكلها الكنيست واتخذت اسمها من رئيسها القاضي “شمعون أجرانات” ثالث رئيس للمحكمة العليا الإسرائيلية الذي شغل منصبه بداية من 18 مارس 1965 وحتي 8 سبتمبر 1976..
شمل قانون لجنة أجرانات الذي أصدرته الكنيست علي آلية تحصين أعمال اللجنة قانونيا ودستوريا ومنحها شرعية استدعاء واستجواب القادة والساسة الإسرائيليين مع عدد آخر من البنود الرئيسية.حدد قانون أجرانات آلية رسمية لمباشرة التحقيقات في الأحداث والوقائع التي أدت لفشل أجهزة الاستخبارات والحكومة وجيش الاحتلال وبدأت لجنة أجرانات جلساتها صباح 21 نوفمبر 1973 وعلي مدار 140 جلسة سرية استمعت وحققت مع 58 شاهدا من القادة والضباط والسياسيين الإسرائيليين علي كافة المستويات للتحقيق والاستماع وتقديم الشهادات الرسمية.وقد أصدرت لجنة أجرانات أولى توصياتها في اول إبريل 1974 حملت فيها المسئولية لبعض الشخصيات العسكرية دون غيرهم. وعلي إثر تلك التوصيات أجبر عدد كبير من العسكريين والسياسيين في إسرائيل علي تقديم استقالاتهم الفورية وفي النهاية انهارت الحكومة بكاملها.أوصت لجنة أجرانات بنقل اللواء احتياط “إيلي زاعيرا” مدير جهاز الاستخبارات الحربية المعروف بالاسم “أمان” بعيدا عن وظيفته.
الاعترافات بالهزيمة على لسان قادة الحرب تتوالى سواء في الندوات التى اقيمت خصيصا او في شهاداتهم الرسمية ومذكراتهم او تحليلاتهم..منها:
**ما قاله موشي ديان يوم 4 أكتوبر 1973: «إن إسرائيل تخوض الآن حربا لم تحارب مثلها من قبل سواء عام 1956 أو فى معارك الأيام الستة عام 1967 وهذه حرب صعبة، ومعارك المدرعات قاسية، ومعارك الجو مريرة.. إنها حرب ثقيلة بأيامها وثقيلة بدمائها». وقال تعليقا على وجود أسلحة دفاع جوى جديدة لدى مصر: كان الجيش الإسرائيلى يعلم بوجود هذه الأسلحة لدى مصر ولكن استخدام قوات الدفاع الجوى المصرى لها بكفاءة عالية هو ما لم نكن نعلمه.
«إن حرب أكتوبر كانت بمنزلة زلزال تعرضت له إسرائيل».
** رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك والذي كان وقتها ضمن قوات الاحتياط الإسرائيلي قال: “في ذلك اليوم، ضاع أثر نصر عام 1967 النفسي، وضاع الشعور بأن الجيش الإسرائيلي لا يُهزَم”.
**رئيس سلاح المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق الجنرال عاموس يدلين اعترف اكثر من مرة وفي اكثر من مناسبة بأن هزيمتهم الساحقة فى حرب السادس من أكتوبر عام 1973 على يد قوات مصر المسلحة كان بسبب عنصر المفاجأة وفشلهم استخباراتيا فى التنبؤ بموعد الحرب..
** آمنون كابيليوك صاحب كتاب «إسرائيل..انتهاء الخرافة» قال:تقول الحكمة البريطانية كلما كان الصعود عاليا كان السقوط قاسيا..وفى السادس من أكتوبر سقطت إسرائيل من أعلى برج السكينة والاطمئنان الذى كانت قد شيدته لنفسها وكانت الصدمة على مستوى الأوهام التى سبقتها قوية ومثيرة..فى المرات السابقة كان الجنود يعودون إلى ديارهم بعد تسريحهم وكانوا يذوبون فى موجة السعادة والفخر أما هذه المرة فقد عادوا وقد استبد بهم الحزن والفزع واحتاج الكثيرون منهم إلى التردد على قسم العلاج النفسى فى الإدارة الطبية التابعة للجيش نظرا لإصابتهم بصدمة قتال.
** الجنرال الإسرائيلى يشيعيا جافيتش قال في ندوة عن حرب أكتوبر بالقدس فى 16 سبتمبر 1974 :بالنسبة لإسرائيل ففى نهاية الأمر انتهت الحرب دون أن نتمكن من كسر الجيوش العربية ولم نحرز انتصارات ولم نتمكن من كسر الجيش المصرى أو السورى على السواء ولم ننجح فى استعادة قوة الردع للجيش الإسرائيلى وإننا لو قيمنا الإنجازات على ضوء الأهداف لوجدنا أن انتصار العرب كان أكثر حسما ولا يسعنى إلا الاعتراف بأن العرب قد أنجزوا قسما كبيرا للغاية من أهدافهم فقد أثبتوا أنهم قادرون على التغلب على حاجز الخوف والخروج إلى الحرب والقتال بكفاءة وقد أثبتوا أيضا أنهم قادرون على اقتحام مانع قناة السويس ولأسفنا الشديد فقد انتزعوا القناة من أيدينا بقوة السلاح.!!
** حاييم هيرتزوج رئيس دولة الكيان الأسبق قال فى مذكراته حول حرب أكتوبر:“لقد تحدثنا أكثر من اللازم قبل السادس من أكتوبر وكان ذلك يمثل إحدى مشكلاتنا فقد تعلم المصريون كيف يقاتلون بينما تعلمنا نحن كيف نتكلم لقد كانوا صبورين كما كانت بياناتهم أكثر واقعية منا، كانوا يقولون ويعلنون الحقائق تماما حتى بدأ العالم الخارجى يتجه إلى الثقة بأقوالهم وبياناتهم».
** الجنرال فارار هوكلي مدير تطوير القتال في الجيش البريطاني:الانجاز الهائل الذي حققه المصريون هو عبقرية ومهارة القادة والضباط الذين تدربوا وقاموا بعملية هجومية جاءت مفاجأة تامة للطرف الأخر رغم أنها تمت تحت بصره وتكملة لهذا اظهر الجنود روحا معنوية عالية وجرأة كانتا من قبل في عداد المستحيل .
**المؤرخ العسكري الأمريكي تريفور ديبوي رئيس مؤسسة هيرو للتقييم العلمي للمعارك التاريخية في واشنطن قال في الندوة الدولية عن حرب أكتوبر عام 1975:انه نتيجة للقتال المشرف الذي خاضته الجيوش المصرية والسورية استرد العرب كبرياءهم وثقتهم في أنفسهم مما أدي إلي تدعيم النفوذ العربي علي الصعيد العالمي بشكل عام فليس هناك شك من الوجهة الإستراتيجية والسياسية في أن مصر قد كسبت الحرب وأن كفاءة الاحتراف في التخطيط والأداء الذي تمت بها عملية العبور لم يكن ممكنا لأي جيش آخر في العالم أن يفعل ماهو أفضل منها ولقد كانت نتيجة هذا العمل الدقيق من جانب أركان الحرب وعلي الأخص عنصر المفاجأة التي تـم تحقيقها هو ذلك النجاح الملحوظ في عبور قناة السويس علي جبهة عريضة..
**المؤرخ العسكري البريطاني ادجار اوبلانس:لقد أكثرت إسرائيل من دعايتها إلي أن فوجئت في حرب أكتوبر بجنود يحطمون القيود ويقهرون الإسرائيليين ويأسرون المئات منهم ويسقطون المئات من طائراتهم ويدمرون المئات من دباباتهم. وخلاصة القول أن الجنود العرب قضوا علي أسطورة السوبرمان الاسرائيلي الذي لايقهر وتنطبق علي العرب الحكمة التي قالها نابليون وهي: إن النسبة بين الروح المعنوية والعتاد الحربي تبلغ ثلاثة إلي واحد..
** الصحفي البريطاني دافيد هيرست قال في كتابه البندقية وغصن الزيتون:إن حرب أكتوبر كانت بمثابة زلزال فلأول مرة في تاريخ الصهيونية حاول العرب ونجحوا في فرض أمر واقع بقوة السلاح..لقد دفع الإسرائيليون ثمنا غاليا لمجرد محافظتهم علي حالة التعادل بينهم وبين مهاجميهم وفقدوا في ظرف ثلاثة أسابيع وفقا للأرقام الرسمية 2523رجلا وهي خسارة تبلغ من حيث النسبة ماخسرته أمريكا خلال عشر سنوات في حرب فيتنام مرتين ونصف..لقد أسفرت الحروب الإسرائيلية العربية السابقة عن صدور سيل من الكتب المصورة المصقولة الورق تخليدا لذكري النصر إما في هذه المرة فان أول كتاب صدر في إسرائيل كان يحمل اسم “المحدال” أي التقصير!!
** وهل هناك اقوى من شهادة جولدا مائير رئيسة وزراء العدو وقت الحرب.. قالت في مذكراتها إن حرب أكتوبر لم تكن مجرد حدث عسكري كبير أو رهيب وإنما مأساة عاشت وستعيش معها حتى الموت. وأضافت ” لقد وجدت نفسي فجأة أمام أعظم تهديد تعرضت له إسرائيل منذ قيامها، وقد انهارت معتقدات أساسية كانت راسخة لدينا في ذلك اليوم ومنها إيماننا المطلق بقدرتنا علي منع المصريين من عبور قناة السويس”.
عندما استعيد تلك الأيام اتذكر الأخبار المروعة التي كانت تصل من الجبهة والخسائر التي تمزق قلبي.. وتقول إنها فكرت فى الانتحار فى الأيام الأولى للحرب لأنها صرحت قبل حرب أكتوبر بأن مصر لا تملك القدرة على شنها ولا يوجد بها القائد الذي يستطيع اتخاذ قرار حرب وإلا أرسل شعبه للهلاك!
** في ذكرى النصر..نقول لكل مصري كل يوم وانت في نصر.. ومن نصر الى نصر..
والله المستعان..