تنطوى الحروب ـ رغم بشاعتها ـ على جوانب إيجابية أحيانا، فهى تكشف الحجب عن المخبوء، وتفضح الجبناء والعملاء والعنصريين والمتلاعبين والمتخاذلين، وتخلق حالة من الفرز التلقائى، لا يستوى فيها الخبيث والطيب، ولا يلتقى عندها الحق والباطل، ولهذا كانت الحروب دوما تمحيصا وابتلاءات، ومثلت على مدار التاريخ منعطفات لنهايات وبدايات.
ولقد رأينا فى حرب غزة العجب العجاب؛ فئة قليلة مستضعفة تدافع عن شعبها وأرضها ومقدساتها، تواجه أعتى قوة فى العالم، هى الأكثر بغيا وبطشا، فتدك حصونها، وتكسر كبرياءها فى ساعات قلائل، وهي لا تملك من سلاح إلا الإرادة، والإيمان بعدالة قضيتها.
ما كادت شرارة الحرب تنطلق حتى تكشفت الحقائق واضحة جلية، فالقوة المغتصبة تحولت إلى فئران مذعورة، والجدران العازلة تهاوت، ولم توفر الأمن لأصحابها، مما اضطر نتنياهو إلى طلب النجدة من أمريكا، التى أظهرت الحرب أنها ليست الوسيط النزيه، وإنما هى الطرف الأصيل الذى يعطى القرار، ويقدم المال والسلاح والرجال، ويحرك الأساطيل وحاملات الطائرات وراجمات الصواريخ والقنابل الفسفورية، وما إسرائيل ونتنياهو إلا أدوات منفذة.
أعادت الحرب الأمور إلى طبيعتها، وكشفت زيف الشعارات والمواقف، فاتضح للعالم أجمع أن إسرائيل غير قادرة على حماية نفسها بنفسها، وظهر ضعف مخابراتها وجبن جيشها، الذى لا يستطيع القتال إلا من داخل الدبابات المصفحة والطائرات الشاهقة، وأن قادتها لا يملكون قرارهم، فقد احتاج نتنياهو أن يحصل على الضوء الأخضر من الرئيس الأمريكى ليضرب غزة، فأعطاه بايدن القرار ومعه 200 ألف جندي من قوات المارينز، وأرسل إليه وزراءه، وخرج ليعلن بنفسه الحرب، ويأمر بأن يكون الرد على المقاومة ساحقا ماحقا، وتبعه فى ذلك حكام أوروبا، فيما يشبه الحرب الصليبية الشاملة.
لقد بدت عنصرية بايدن وحلفائه الغربيين واضحة جلية، فهم لايرون إلا إسرائيل ومصالحها، ولا ينزعجون إلا إذا طالها شيء من التهديد، أو إذا سال الدم الإسرائيلى، الذى هو فى الحقيقة دمهم، فقد اكتشفنا أن الإسرائيليين مازالوا يحملون جنسيات البلاد التى جاءوا منها، حتى إذا واجهوا خطرا عادوا إلى أوطانهم الأصلية.
أما الشعب الفلسطينى صاحب الأرض فلا أهمية له عند بايدن وحلفائه، هذا الشعب مجرد ” حيوانات بشرية ” ليس لها أي اعتبار إنساني، وليس لدمه حرمة كباقى الدماء، الكل يهرع لإنقاذ دولة الاحتلال، ويبكى على قتلاها ومصابيها، ولا أحد ينظر إلى هؤلاء الأبطال، الذين واجهوا بصدورهم آلة الحرب الجهنمية، وصمدوا أمام الحصار والتجويع والعقاب الجماعى، وقطعت عنهم المياه والكهرباء وهدمت منازلهم، وحولت مدنهم وقراهم إلى مقابر جماعية.
ومع هذه الحرب العاتية تشن أمريكا وحلفاؤها حربا إعلامية كبرى لتضليل العالم، يقلبون فيها الحقائق، فيتهمون المقاومة بالإرهاب وقتل المدنيين، ويشبهونها بـ” داعش”، وبحجة عزل إيران وحزب الله يسوغون لإسرائيل ممارسة كل ألوان الإرهاب، ويبررون هدم البيوت والمساجد، واستهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف، وتعرية أجساد القتلى من الرجال والأطفال والنساء الأسرى المقيدين، والتبول على الجثث فى الشوارع، وتطبيق سياسة الأرض المحروقة على غزة لتهجير أهلها، وكلها ممارسات داعشية بامتياز، ولايعترفون بشرعية المقاومة المؤيدة بالقانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة، التى تقر بأنه “ما دام الاحتلال موجودا فالمقاومة مشروعة”.
إن ما أثار الرعب لدى هؤلاء العنصريين جراء (طوفان الأقصى) ليس فقط انتصار المقاومة، وإذلال الجيش الذى لايقهر، رغم فارق العدة والعتاد، وإنما التخوف من يقظة تحيى الحلم العربى والمشروع العربى، الذى عملوا طويلا على وأده، بالإصرار على تغيير المناهج التعليمية، ومحو أي إشارة فيها إلى فكرة الجهاد ورموز البطولات والفتوحات وعقيدة النصر والشهادة، ومن خلال إعلام موجه لتثبيط الهمم، وبث روح الهزيمة فى الأمة، والتشكيك الممنهج فى الدين، والطعن فى السنة والقرآن الكريم، وتشويه الصحابة الكرام والقادة التاريخيين لأمتنا، وتحقير التراث، وطلب القطيعة التامة معه.
هم يعلمون جيدا أن انتصار المقاومة والتفاف الأمة حولها يمثل هزيمة مدوية لمشروعهم التغريبى، القائم على الانبطاح الثقافي والفكري، ويمثل فشلا لأولئك الذين أنفقوا حياتهم في الجدل البيزنطي حول الحداثة والتنوير ونقد التراث وجلد الذات، فهذه البطولة التي رأيناها فى (طوفان الأقصى) هي بطولة خرجت من التراث، تراث الرجال الأبطال والفقهاء العظام والعلماء الكبار، هذا نتاج تراثنا، فماذا صنع المهرجون العلمانيون، الذين ينتقدون التراث ليل نهار، ويقتلون الشجاعة والشهامة في النفوس، ويزرعون الإحباط واليأس والأنانية المادية فى الأجيال الشابة.
لقد قضى الغرب زمنا طويلا يرفع شعار الحوار الحضاري وقبول الآخر، ويلقننا دروسا عن المساواة والتسامح ووحدة الإنسانية، لكن حين جد الجد راح يقلب لنا ظهر المجن، ويذكرنا بأنه فئة ونحن فئة، وأن الحوار الحضاري والتسامح عنده هو أن نظل في أماكننا لا نتحرك، نقبل بالفتات الذى يفيض عن حاجته، ولا نطالب بحقوقنا، فإذا تحركنا قليلا رمى في وجوهنا بالحوار والتسامح وأخرج السلاح.
قالوا لنا إن الدين لا مكان له، وإن المواطنة هي الأصل، وإن رابطة المواطنة أهم من رابطة الدين، ثم رأيناهم يتقاطرون على إسرائيل من كل أنحاء العالم إيمانا بالدين لا بالمواطنة، وها هو وزير الخارجية الأمريكي بلينكن يقول إنه جاء إلى إسرائيل كيهودي لا كأمريكي؛ وها هي أوروبا ترفع شعار (العداء للسامية) في وجه من يعلن تأييده أو تعاطفه مع المقاومة الفلسطينية، وها هم يتخلون عن المواطنة ليرجعوا إلى رابطة الدين والدم.
فى المقابل اختفى المثقفون العرب دعاة التغريب، دخلوا الجحور وصمتوا صمت القبور، فلا احتجاج ولا شجب ولا استنكار، لقد تهاوى مشروعهم الثقافى الذى تم غرسه فى بلادنا، والذى لا تقل جرائمه عن جرائم الاحتلال، كان المثقفون قديما يعلنون تضامنهم، ويرفعون أصواتهم، ويسافرون إلى المقاومة فى مواقعها، وفى مخابئها، لكن هؤلاء لايجرؤون على النطق بكلمة، فالكلمة موقف، والمواقف للرجال.