تعاني منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ندرةً في المياه واقتصادات متقلّبة واعتماداً مفرطاً على استيراد الأغذية، ما يجعلها أكثر عرضةً لمستويات أعلى من انعدام الأمن الغذائي. ويؤثّر تغيّر المناخ في المنطقة بشكلٍ متزايد، إذ تتعرّض لفترات جفاف طويلة ولموجات حرّ تؤثّر مباشرة في الإنتاج الزراعي. إنّ اعتماد المنطقة المحدود للأساليب الزراعية الحديثة يجعل من هذه المسألة قضية ملّحة، في الوقت الذي تشحّ فيه الموارد وتزداد الحاجة إلى تحسين فعالية الإنتاج الغذائي. وقد أرهقت الحربُ في أوكرانيا الأمنَ الغذائي في مختلف أرجاء المنطقة والعالم.
بالفعل، يشكّل الصراع سبباً أساسياً آخر لانعدام الأمن الغذائي في المنطقة نفسها، بحيث ثؤثّر الصراعات المستمرّة في عدد من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكلٍ مباشر في الأمن الغذائي لشعوبها وسكان البلدان المجاورة لها.
يُعد الأمن الغذائي ظاهرة معقدة تشمل العديد من الجوانب. ويعتبر مفهوم الأمن الغذائى بحد ذاته أكثر تعقيدا من الاكتفاء الذاتى للغذاء الذى يعتمد فقط إلى مدى كفاية الغذاء الأساسى. ويعتمد مفهوم الأمن الغذائى على أربعة جوانب أساسية. ولقد شاع استخدام مصطلح الأمن الغذائى منذ بداية السبيعينات من القرن الماضى عند تفاقم أزمة الغذاء العالمية،
حيث كان التركيز فى المقام الأول على مشكلات الإمداد الغذائى لضمان توافر واستقرار أسعار المواد الغذائية على الصعيدين الوطنى والدولى. وخلال مؤتمر القمة العالمى للأغذية عام 1996 تم وضع تعريف دقيق للأمن الغذائى، حيث يتحقق الأمن الغذائى عندما يتمتع كافة البشر فى جميع الأوقات بفرص الحصول من النواحى المادية والاقتصادية والاجتماعية على أغذية كافية وسليمة ومغذية تلبى حاجاتهم التغذوية وتناسب أذواقهم الغذائية كى يعيشوا حياة موفورة النشاط والصحة.
وقد خرج الأمن الغذائى من إطاره التقليدى ببروز مفهوم التنمية المستدامة فى أواخر القرن العشرين ليتحول اهتمام الدول إلى تحقيق أمن غذائى مستدام، ومفهوم الأمن الغذائى المستدام لا يلغى المفهوم التقليدى للأمن الغذائى، بل يأتى مكملا له مضافاً إلى عنصر الاستدامة.
وقد بدأت الأراضى القديمة ذات الخصوبة العالية فى وادى النيل ودلتاه تعانى تدهور الخصوبة خاصة بعد إنشاء السد العالى نتيجة لتوقف إضافة العناصر الغذائية الطبيعية للتربة، وقد تزامن توقف إضافة مخصبات التربة مع زيادة التكثيف الزراعى نتيجة لتنظيم الرى وبدافع الزيادة الربحية وتغطية الطلب المتزايد الناجم عن الزيادة السكانية المطردة. ومع تحرير القطاع الزراعى، اتجه المزارعون إلى تكرار زراعة المحاصيل الأكثر ربحية بغض النظر عن أثر ذلك على خصوبة التربة، هذا علاوة على ارتفاع منسوب الماء الأرضى فى مساحات كبيرة من الأراضى، وكذلك وجود مساحة كبيرة من الأراضى الجيدة الضائعة فى قنوات رى ومصارف متسعة بغير داع وتزداد اتساعا مع مرور الزمن.
تعانى مصر أزمة غذاء كبيرة، تتفاقم من عام إلى آخر، حيث تعتمد مصر على استيراد الكثير من الأغذية وعلى الأخص غذاء الفقراء من الحبوب (القمح)، والبقوليات (الفول البلدى)، والزيوت النباتية (الذرة، عباد الشمس). ويمكن إرجاع أسباب الخلل فى الأمن الغذائى المصرى إلى عاملين أساسيين: عامل خارجى وآخر داخلى:
أولا- العوامل الخارجية:
1- أدى وجود جائحة الكورونا وانتشارها فى كثير من دول العالم، لاسيما فى الدول المصدرة للغذاء، إلى أن تقوم تلك الدول فى أخذ احتياطاتها لضمان توفير الغذاء لمواطنيها وعلى الأخص من السلع الغذائية الاستراتيجية، وذلك من خلال تقليل التصدير أو منعه لسلع غذائية معينة، مما أدى إلى تقليل المعروض العالمى من تلك السلع فى الأسواق العالمية، وبالتالى ارتفاع أسعار تلك السلع وعلى الأخص السلع الغذائية وعلى رأسها القمح، والذرة، والزيوت النباتية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل صاحب ذلك موجة من التضخم العالمى، وفى فبراير 2022 اندلعت الحرب الروسية-الأوكرانية التى أدت إلى تفاقم التضخم العالمى، وبالتالى كان لها تأثير كبير فى ارتفاع أسعار السلع الغذائية والقمح والمحاصيل الزيتية على وجه الخصوص.
2- نتيجة الأزمة العالمية المالية والنقدية التى خلفتها أزمة الكورونا والتى تمثلت فى زيادة الإنفاقات الحكومية على الصحة ودعم الصناعات الصغيرة فى اقتصاديات العالم، مع وقف عمليات الإنتاج أو تقليص الإنتاج نتيجة جائحة الكورونا، أدى هذا إلى انخفاض معدلات النمو على مستوى العالم، مما أدى إلى أزمة مالية ونقدية وحدوث ما يسمى بالركود التضخمى على مستوى العالم، والذى تمثل فى معدلات تضخم كبيرة وارتفاع الأسعار العالمية بشكل لم يحدث من قبل، حيث ارتفع المتوسط العام لأسعار الغذاء بنحو 51٫1%، وذلك خلال شهر يونيو 2022 عن متوسط أسعار 2010 وهو أكبر معدل زيادة فى أسعار الغذاء منذ 2012 حتى الآن. ومثل تلك الظاهرة مستمرة حتى الآن ومتوقع أن تستمر للفترة القادمة، وذلك نتيجة لاندلاع هذه حرب، والتى أدت إلى مزيد من الارتفاع فى أسعار الغذاء خاصة أن كلا من روسيا وأوكرانيا من الدول المصدرة للغذاء، لاسيما القمح وزيت عباد الشمس، كذلك تعتبر كل من روسيا وأوكرانيا من الدول المستوردة للمنتجات الزراعية التصديرية المصرية وعلى رأسها الموالح والبصل والثوم، وبالتالى اندلاع تلك الحرب سوف يؤدى إلى الحد أو تقليل الصادرات المصرية إلى كلتا الدولتين، الأمر الذى يوجب على مصر البحث عن أسواق أخرى للقمح والزيت والتى عادة ما ستكون أغلى من القمح الروسى أو الأوكرانى، الذى يتميز بالسعر المنخفض، وكذلك أسواق بديلة للصادرات الزراعية المصرية.
3- ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير نتيجة ظاهرة التضخم العالمية، الأمر الذى أدى إلى ارتفاع أسعار الغاز والبترول. حيث ارتفع متوسط أسعار الطاقة بنحو 71٫2%، وذلك خلال شهر يونيو 2022 على متوسط أسعار 2010، وهو أكبر معدل زيادة فى أسعار الطاقة منذ 2013 حتى الآن. حيث تعدى متوسط سعر برميل النفط المائة دولار خلال الأشهر السابقة، وبلغ سعر الغاز نحو 34٫3 دولار/مليون وحدة غاز بريطانية فى يونيو 2022. الأمر الذى يشير إلى الزيادة المستمرة فى أسعار النقل والشحن الدولية بالإضافة إلى زيادة معدلات التضخم للدول المستوردة للطاقة، لاسيما الطاقة الأحفورية وهى الدول المصدرة أساسا للغذاء.
4- نتيجة زيادة معدلات التضخم العالمية وتأثر الدول الأوروبية والولايات المتحدة بهذا التضخم العالمى، ونتيجة لزيادة العجز فى الموازنة الأمريكية على وجه الخصوص نتيجة جائحة الكورونا والتضخم العالمى الذى واكبها، فقد أدى ذلك إلى أن بعض تلك الدول قام برفع أسعار الفائدة الدولية، وكذلك إصدار سندات دولية طويلة الأمد، حيث قامت الولايات المتحدة برفع سعر الفائدة قرابة الـــ 2% على أربع مراحل، ويمكن أن تزيد فى الأشهر القادمة إذا ما استمرت معدلات التضخم، الأمر الذى أدى إلى خروج بعض الأموال الساخنة من مصر فى الآونة الأخيرة حيث تقدر تلك الأموال الساخنة الخارجة فى بعض التقديرات من 20 إلى 30 مليار دولار، الأمر الذى يمكن أن يؤثر فى السندات الدولية المصرية التى تم إصدراها فى السنوات الماضية، وحجم الاحتياطى النقدى المصرى، وبالتالى على القدرة المصرية على توفير الغذاء فى المستقبل خاصة أن مصر دولة مستوردة للغذاء.
5- العوامل المتعلقة بالتغيرات المناخية حيث توقع أن يكون للتغيرات المناخية تأثير كبير على الإنتاج الزراعى والغذائى فى مصر، سواء فيما يتعلق بالاحتباس الحرارى وأثره السلبى على الإنتاجية الزراعية ومحاصيل الغذاء وعلى الموارد المائية والأرضية، أو فيما يتعلق بالتأثيرات المحتملة لارتفاع مستوى ماء البحر وتملح مساحات واسعة من الأراضى الزراعية بالدلتا، الأمرالذى يمكن أن سيجعل الموقف الغذائي المصرى أكثر هشاشة وضعفاً تجاه الأزمات العالمية. ولا يقتصر أثر التغيرات المناخية على المستوى المحلى فقط، بل يمتد إلى العرض العالمى من الغذاء، وتضر بإنتاج الغذاء فى الدول المنتجة المصدرة للغذاء، وهو ما يجعل الدول المستوردة للغذاء ومنها مصر فى موقف أكثر حرجا عندما تتقلص مصادر الاستيراد.
6- تعتبر الواردات المصرية ذات مرونة منخفضة نتيجة أن هيكل الواردات المصرية يتكون من مواد أساسية، مثل السلع الغذائية، ومواد خام دوائية، ومدخلات الصناعة الوطنية، بالتالى فإن أى تضخم عالمى يؤدى إلى زيادة معدلات التضخم المصرية، الأمر الذى انعكس على زيادة أسعار المواد الغذائية بشكل كبير حيث بلغ معدل التضخم على مستوى الإنفاق على الطعام والشراب فى مايو 2022 (كما ورد فى النشرة الإحصائية الشهرية للبنك المركزى المصرى يونيو 2022) نحو 130٫7% عن أسعار شهر مايو 2021، وذلك بسنة أساس (2018-2019 =100). ويعتبر التضخم على مستوى الإنفاق على الطعام والشراب هو أعلى تضخم بعد التضخم على مستوى الإنفاق على التعليم.