إنّ المحور الذى يدور حوله بحثُ الباحثين فى الحياة الصوفية هو التجربة الصوفية التى أطلق عليها الصوفية أنفسهم اسم (الحال)، ووصفوها بأنها المنزلة الروحية التى يتصل فيها العبد بربّه، والتى يَحصل له فيها الإشراق، ويفيض عليه فيها العِلم الذوقى ..
وهذه ليست مِن أحوال العقل الواعى؛ وإلاَّ كانت خاضعةً لِلعقل وقوانينه، وإنما هى من حالات الوجود الباطن الساعى لِلإعلان عن نفسه فى كلّ نواحى النشاط الروحى.
فالصوفى يسعى بتسليم إرادته المتناهية لِلإرادة الإلهية المطلَقة، فهو يرى كُلَّ ما يجرى فى نفسه وفى الكون مِن حولِه مَظهراً مِن مظاهر الإرادة الإلهية؛ لأنّه لا مُرِيدَ حقيقةً إلاَّ الله سبحانه وتعالى، ولا فاعلَ تحقيقاً إلاَّ هو عزّ وجلّ.
اعتبَر الصوفيةُ الإرادةَ نقطةَ الابتداء لِلاتصال بمطلوبهم وهو الله سبحانه.
والصوفى لا يقول كَمَا قال ديكارت:” أنَا أفكِّر إذاً أنَا موجود “؛ بل يقول:” أنَا أريد إذاً أنَا موجود “، ولكن إرادته فى نظره ليست على الحقيقة الإرادةَ الإنسانيّةَ المتناهية؛ بل الإرادة الإلهية المطلَقة؛ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّه}؛ لأنّه فانٍ فى الله متحقق فى حالِه يرى كُلَّ ما يجرى فى نفسه وفى الكون الذى يحيط به مَظهراً مِن مظاهر الإرادة الإلهية؛ لأنّه لا مُرِيدَ فى الحقيقة إلاَّ الله، ولا فاعلَ فى الحقيقة إلاَّ هو سبحانه وتعالى؛ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
بل إنّ المعرفة التى أَطلَق عليها متصوفة المسلمين (الذوق) ليست هى الأخرى عملاً مِن أعمال العقل الواعى ولا مَظهراً مِن مظاهره؛ بل هى مَظهر مِن مظاهر اتصال الروح الوجدانى، ولِهذا لا تخضع المعرفة الذوقية لِمقولات العقل ولغته ومنطقه؛ بل لها لغتها الخاصة ومنطقها.
والصوفية لا يترددون فى القول بأنّ العقل ومقولاته حُجُب كثيفة تَحول بين الإنسان وعالَم الحقيقة، وأنّه لا بُدَّ لِمَن يَنشد المعرفةَ الذوقيّةَ الخالصةَ مِن أنْ يتجرد عن العقل وأساليبه وحيله، ويتحقق بمقام الإرادة الصِّرفة.
لا يعارِض ابن عربىّ القدماءَ فى اعتبارِ النطق فصلاً يميز الإنسانَ عَمَّا عَدَاه مِن أنواع الحيوان المشتركة معه فى الجنس؛ ولكنه يأبى أنْ يعتبر العِلم الذوقى وليدَ قوة النطق فى الإنسان ومصدر ذلك العِلم وأداته.
وهو يشير بعد ذلك إلى علامتين هامّتين مِن العلامات الأربع التى عَدَّها الفيلسوف ويليام جيمس مميزات لِلتجربة الصوفية، وهى: حالة القابلية الصِّرفة، وحالة الخرس ..
فالحالة الأولى يسميها ابن عربىّ (حالةَ الكشف)؛ لأنّ الكشف حالة قابلة محضة لا أثرَ لِلفعل فيها، على أنّه لا يقصد بالقابلية المحضة أو الانفعال الصِّرف ركوداً أو تعطيلاً فى النشاط الروحى عند الصوفية؛ وإنما يريد انعدامَ الفاعلية مِن جانب العقل، أمَّا الناحية الأخرى – وهى ناحية الإرادة – فالنشاط الروحى فيها أقوى وأعنف ما يَكون؛ إذ الصوفى فى معاناتِه لِتجربته فى حالة تعمل فيها النفس بجمعيتها لا بجزء منها، ومِن هنا جاء ذلك الاستغراق الروحى وذلك الشمول الغامر الذى أَطلَق عليه الصوفية اسمَ (الفَناء والجذب والوجد).
لَمَّا كانت التجربة الصوفية عملاً مِن أعمال الإرادة والوجدان – لا العقل – صارت فى أخصّ وأعلى مَظهر مِن مظاهر الإرادة والوجدان: وهو الحبّ ؛ ليس الحبّ المادِّىّ الذى يَهدف إلى إشباع شهوة أو حاسّة؛ بل الحبّ بأعمق معانيه؛ أى الإفصاح عن أقوى النزعات الروحية فى الإنسان، لِهذا اصطنع الصوفية لغةَ الحبّ لِلتعبير عن أحوالهم وأذواقهم التى لا يستطيع العقلُ إدراكَها ولا اللغةُ التعبيرَ عنها، فزخرت لغة التصوف بكنوز مِن الشعر الخالد فى الحبّ الإلهي لِشعراء الصوفية الفُرس والعرب مِن أمثال جلال الدين الرومى وعبد الرحمن جامى ومحمود شبسترى وابن الفارض وابن عربى.
فى رياض الحبّ أناشيد تهتزّ لها قلوب العاشقين ممن يدركون إشاراتِهم ومراميهم.
فى التجربة الصوفية تتحدّ الإرادة الإنسانية مع العاطفة فى الرغبة الملحّة التى تَدفع بالنفس دفعاً إلى تَجاوُز عالَم الحسّ والعقل إلى عالَم تتصل فيه عن طريق الحبّ إلى محبوبها الأول الذى تدركه النفس بالذوق كَمَا يقول الصوفية، أو تدركه فى النفس حاسّة متعالية كونية؛ أمَّا أنّ هذه الحاسّة كونية فلأنها تدرك الوجودَ في كلِّيَّتِه وإطلاقِه، ولا يحجبها عن هذا الإطلاق الصفاتُ المشخّصةُ لِلأشياء والتى ترجع مِن جهة إلى عمل الحواسّ الظاهرة ومِن جهة أخرى إلى الأساليب العقلية لإدراكها ..
هى حاسّة عاقلة مُرِيدة وجدانية، مختلفة تمامَ الاختلاف عن الحواسّ والقُوَى العقلية الأخرى التى ندرك عملَها فى حياتنا، وهى وإنْ كانت موجودةً فى كُلّ إنسان بالقوة فإنّها لا توجَد فى كُلّ إنسان بالفعل [الوجود بالقوة هو إمكانية الحصول، أمَّا بالفعل فهو الحصول فعلاً]، ولم يحدِّثنا عن وجودها سوى هؤلاء الذين بَلَغَت فيهم الحياة الروحية قمّةَ كمالِها.
وتلعب العاطفة دوراً هامّاً فى التجربة الصوفية، وبها ترجع مَظاهر الشمول والاستغراق والفَناء وغيرها مِن الصفات التى تتمثل فى وحدة المحِبّ والمحبوب ..
قالَ ِلى المحبوبُ لَمَّا زُرْتُهُ * مَنْ ببابِى قُلْتُ بالبابِ أَنَا
قالَ لِى أَنْكَرْتَ توحيدَ الهَوَى * عندَمَا فَرَّقْتَ فيهِ بَيْنَنَا
ومَضَى عامٌ فلَمَّا جِئْتُه * أَطْرُقُ البابَ عليْهِ مُوهَنَا
قالِ لِى مَنْ أنْتَ قُلْتُ انْظُرْ فَمَا * ثَمَّ إلاَّ أنْتَ بالبابِ هُنَا
قال لِى أَدرَكْتَ توحيدَ الهَوَى * وعَرَفْتَ الْحُبَّ فادْخُلْ يَا أَنَا
فحقيقة المحبة هى فَناء المحِبّ فى المحبوب؛ فلا اثنينية.
أَطلَق الصوفية على هذه الحاسّة المتعالية اسمَ (القلب والسِّرّ وعين البصيرة) وغيرها مِن الأسماء التى تمثِّل رموزاً لِحقيقة واحدة نفترض وجودَها ولا ندرِك مِن كنهها شيئاً، فلنسمها (القلب) – إذ لا عِبرةَ بالأسماء – ولنحاول أنْ نَعرف كُلَّ ما يمكن أنْ نَعرفه عنها وعن صفاتها وخصائصها مِن أقوال الصوفية السائرين في طريقهم إلى غايتهم، ونحاول أنْ نقف على البواعث التى تدفعهم إلى سفرهم، وأنْ نتعرف على الشعاب والدروب التى يَسلكونها، والزاد الذى يتزودون به، واللغة التى يصفون بها الطريق، والغاية التى يصلون إليها ..
فتَشَبَّهُوا إنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ * إنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلاَحُ
والله يَقول الحقَّ، وهو يَهدى السبيل.