كان جدى محمود غالب الشهير بمحمود سلّام رحمه الله شخصية متفردة فى كل شىء. هو أحد رموز الأقصر والصعيد. أسطورة نادرة التكرار. كان يسكن فى الطابق الرابع من نفس العمارة التى نسكن فيها، عمارة الحاج الصن فى شارع محمد فريد بالأقصر.كنت تستطيع أن تضبط ساعتك على مواعيد ذهابه للجزيرة فجراً وعودته منها ليلاً.فى البدء كان يستخدم الدراجة العادية.
يربطها فى مدخل العمارة بسلسلة كبيرة، بمجرد أن نسمع صوت «شخللة» السلسلة نعرف أن يوم جدى محمود قد بدأ.ثم تحول إلى الموتوسيكل لنسمع صوت المحرك وكأنه مقطوعة موسيقية يعزفها جدى قبل أن ينطلق إلى جزيرته.والجزيرة هى قطعة أرض زراعية بين قريتى البياضية والعوامية.بنى فيها جدى محمود بيتا بسيطا من الطوب اللبن يقضى فيه نهاره مراعياً لزراعته ليعود مساء محملاً بأجود الخضراوات والفاكهة خاصة المانجو. لم ألمحه إلا متأملاً سارحاً فى الحياة والناس حتى وهو فوق موتوسيكله يمتطيه مثل فارس مقدام فوق صهوة جواد يسابق به ريح الشوارع والطرق من الأقصر إلى الجزيرة.كان فيلسوفاً وحكيماً.
وكانت الجزيرة مقصداً سياحيا هاماً ليس فقط لأهل الأقصر وقراها المجاورة وأصدقاء جدى من عائلات الأقباط قبل المسلمين خاصة فى شم النسيم بل حتى من السياح الأجانب الذين كانوا يحرصون على زيارة جزيرة جدى محمود ذائعة الصيت وقد كتب منذ سنوات طويلة أحد الصحفيين الفرنسيين عنها مقالاً مطولاً.
كان جدى محمود شقيقا لجدتى توحيدة وخالا لوالدى رحمة الله عليهم أجمعين. كثيرا ما اصطحبنى والدى معه فى زيارته لخاله فى الجزيرة. كان ممتعاً وهو يحكى آرائه فيما يدور من أحداث.ساخراً عميقاً، مثقفاً واسع الثقافة والمعرفة ،متفرداً صاحب ذائقة مميزة للشعر والكتابة. أزيدك من الشعر بيت قد كان جدى «شيفا»إيده تتلف فى حرير. طهى لنا مرة أنا وأبى فى الجزيرة بامية حمراء لا أبالغ إذا قلت أن طعمها لا يزال يداعب فمى حتى الآن حيث لم أذق فى مثل حلاوتها. كان متفرداً فى حياته الخاصة والعامة،متزوجاً من طنط سميرة. كنا نناديها بطنط ليس لأننا كنا فى ذلك الوقت ننادى أى سيدة بطنط ولكن لأنها كانت جميلة شقراء،صاحبة ابتسامة ساحرة.
فيبدو أنا قد وجدنا أنه ليس لائقاً بها أن نناديها يا مرات جدى كما نفعل فى مثل هذه الأحوال. ولأن التميز ينتقل فى الجينات، جاء كل أولاد جدى محمود مميزون فى كل شىء، الأولاد منهم والبنات بدءاً من غالب الابن الأكبر الذى درس الفنون الجميلة فى الوقت الذى كان الصعيد يتعامل مع الفنون وكأنها رجس من عمل الشيطان.
كنا نستمتع بعزفه المتميز قبل أن يهاجر إلى المغرب حيث استقر فيها. ثم الراحلون محمد غالب وقد كان وسيماً صاحب طلة مميزة شبيهاً بأحمد مظهر فى شبابه فاستحق لقب برنس المنشية، ثم عبد الرءوف، قلب شجاع لم يكن يهاب شيئاً، لا يتردد عن نجدة الملهوف ومساعدة الضعيف،كان صوته يأتى ضاحكاً مجلجلاً من بلكونة الدور الرابع يهز الأقصر كلها..
أما بنات جدى محمود فأبدأ بالصغيرة تغريد أو«ريتا» كما اشتهرت، وقد أحدث اسمها زلزالاً كبيراً فى عالم الأسماء فى ذلك الوقت.وبعدها أطلقت نصف عائلات الأقصر على بناتها اسم تغريد تيمناً بتغريد محمود سلام.
كانت رحمها الله ضاحكة بشوشة وظلت لآخر لحظة فى عمرها طفلة جميلة لا تكف عن المرح.والأكبر منها هى جميلة الجميلات إلهام محمود والتى رحلت عن عالمنا منذ أيام قليلة.لو كانت عاداتنا فى الصعيد تسمح بمشاركة بناتنا فى مسابقات ملكات الجمال لاحتكرت إلهام محمود لقب ملكة جمال الكون سنوات طويلة. كانت جميلة الروح والقلب.استقرت منذ زواجها بالقاهرة فكانت وتداً من أوتاد الأقصر بالقاهرة وكانت شقتها فى خلوصى مقصداً ومقراً لكل قريب من الأقصر جاء ليقضى مصلحة بالقاهرة.
ورغم تقصيرى فى زيارتها وصلة رحمها إلا أن مجرد شعورى بوجود أبلة إلهام كما كنت أحب أن أناديها فى القاهرة كان يشعرنى بأن العائلة كلها قريبة منى وحقيقى لا أتخيل كيف سيكون طعم القاهرة بدونها. بارك الله فى عمر غالب وجميع أحفاد جدى محمود. واللهم ارحم الله جدى وطنط سميرة وإلهام وتغريد ومحمد ورءوف،وأحسن خاتمتنا واجمعنا معهم فى مستقر رحمتك آمين.