بعد ظهور شبكة الإنترنت والهواتف الذكية والقنوات الفضائية، يمكن القول بيقين كبير إن مفهوم الغربة بمعناه القاسي القديم قد ذاب في بحر التاريخ وتلاشى،
ذلك أن هذه الاختراعات المذهلة قد خدعت الأميال الطويلة، وجعلتها في قبضة اليد، فطوت كوكبنا الأرضي تحت جناحيها.
ذلك أن (الغريب) الجالس في شقته على أطراف ولاية كاليفورنيا غرب أمريكا يستطيع الآن أن يرى والدته ويتحدث إليها في التو واللحظة،
بينما هي تقيم في غرفتها الطيبة بجنوب أسوان! والفضل يعود إلى فواكه التكنولوجيا التي اخترعها عباقرة أفذاذ يعيشون في زماننا.
من هنا يمكن القول إنني لم أكابد الغربة بمعناها القديم، بل لم أتعرض لسهامها المؤذية أصلا،
فمنذ هبطت أرض دبي في يناير 1999، وحتى الآن وأنا أتواصل يوميًا بيسر وسهولة مع الأهل والأقارب والأصدقاء في مصر المحروسة فأطمئن عليهم، وأطمئنهم على أحوالي،
كما أنني أتابع الصحف المصرية والقنوات المصرية ووسائل التواصل الاجتماعي بانتظام، فأعرف ما يجري في بلادي لحظة بلحظة.
في البداية كان التواصل مع الأهل والأصدقاء عبر الهاتف الأرضي، ثم انتقل إلى الهاتف المحمول، والآن عبر تطبيقات تسمح بالتواصل صوت وصورة.
علاوة على جانب بالغ الأهمية، وهو أن الإمارات بلد بالغ الجمال والفرادة، فشعبها يتسم بالخلق الطيب المهذب، وقد شيّدت قيادتها الحكيمة مدنا عصرية على أحدث طراز،
وأشهد أن دبي وأبوظبي أكثر نظافة ونظامًا من باريس ولندن، وقد زرت هذه البلاد. وأشهد أيضًا أنني لم أستمتع بشوارع فسيحة وحدائق رائعة وخدمات ميسرة ونظام مروري منضبط وصارم كما هو موجود في الإمارات،
علمًا بأن المقادير منحتني زيارة 18 دولة، ونحو 70 مدينة عربية وأوروبية وآسيوية، إلا أن الإمارات تتصدر الدول التي تعرف كيف تسعد شعبها والمقيمين في فيها وزوارها الدائمين.
أجل… منحتني الإمارات أشياء مهمة عديدة من أبرزها:
1- تطوير مهارتي الصحفية وإبرازها، حيث شاركت في تأسيس مجلة الصدى الأسبوعية، وتوليت رئاسة القسم الثقافي بها لمدة ستة أعوام ونصف العام.
2- تأسيس مجلة دبي الثقافية مع رئيس التحرير الأستاذ سيف المري، والتي حققت نجاحات كبيرة، حيث توليت موقع مدير تحريرها لمدة ثماني سنوات.
3- تأسيس جائزة دبي الثقافية للإبداع والإشراف عليها لمدة 11 عامًا متواصلة.
4- تأسيس سلسلة كتاب (دبي الثقافية) وشغل موقع مدير التحرير لهذه السلسلة، حيث أشرفت على إصدار 33 كتابًا لكوكبة معتبرة من كبار مثقفي العالم والعربي ومبدعيه.
5- شغل موقع أول منسق ثقافي وإعلامي لمؤسسة (ندوة الثقافة والعلوم) بدبي.
6- شغل موقع مدير تحرير مجلة (حروف عربية)، وهي المجلة الوحيدة في العالم المتخصصة في فن الخط العربي.
7- كتابة مئات المقالات والدراسات في الأدب والفن والفكر والحياة بشكل عام ونشرها في مجلات وصحف مصرية وإماراتية وعربية عديدة.
أما من حيث الإبداع، فقد وهبتني دبي نعمة الحياة الآمنة، فلا خوف من حاضر مرهق، ولا قلق على مستقبل غامض.
الأمر الذي وفر لي الوقت اللازم وأهداني النفس المطمئنة للانكباب على مشروعي الروائي.
وهكذا ألهمتني دبي القبسات الأولى لبعض رواياتي مثل (من فرط الغرام)، و(العاطل) التي وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر 2012، و(نساء القاهرة. دبي) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة (أري روايتي) 2018، وغيرها.
ومع ذلك ينبغي أن أذكر هنا يا دكتور عماد، أنني طوال عملي في دبي كانت مصر بعظمتها المذهلة تعيش تحت جلدي، والقاهرة بتاريخها وفرادتها وسحرها ترافقني في الصباح والمساء، فلم تغب عني بلادي لحظة، ولم أنسَ طعم النيل يومًا.
باختصار… لا غربة حاليًا بالمفهوم الخشن القديم، أما السفر والاكتشاف والاحتكاك، فنعمة لا تقدر بمال،
وأزعم أنني حاولت استثمار سفرياتي ورحلاتي وعناقي للمدن والناس والثقافات المختلفة في رواياتي بشكل أو آخر،
والحكم على مدى نجاح هذا الاستثمار يعود إلى القارئ الكريم والناقد الحصيف.