حدثنا عن ذكرياتك مع شهر رمضان؟
** أظن أنني كنت من المحظوظين، لأني عاصرت الشهر الفضيل وهو في عز تألقه إبداعيًا، حيث تعود ذكرياتي إلى النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي.
في ذلك الوقت وحتى آخر السبعينيات كان الراديو هو البطل الترفيهي والتثقيفي الأهم في رمضان، وهكذا أتذكر بحنين جارف كيف كنا نجتمع حول مائدة الإفطار في انتظار النور الذي يشع من صوت الشيخ رفعت وهو يرفع آذان المغرب،
وفي أثناء تناولنا الإفطار تزلزل وجداني ابتهالات الشيخ سيد النقشبندي بصوته الجبار، ثم يعقب ذلك فوازير رمضان التي قدمتها مرة السيدة فاتن حمامة،
ومرة الفنان صلاح جاهين، ولأنه رسام كاريكاتير فذ، فإن الفوازير التي قدمها كانت عبارة عن رسم بورتريه من خلال خطوط مستقيمة تتواصل وتتقاطع داخل مربع كبير مقسم إلى 100 مربع صغير متساوٍ وفقا للمعلومات التي يخبرنا بها الأستاذ صلاح،
وأذكر جيدًا كيف تشكل أمامي مرة وجه سعاد حسني، ولأني كنت طفلا لم يتجاوز العاشرة، فإن والدي المثقف العصامي الجليل المرحوم عبدالفتاح عراق كان يساعدني، فهو رسام بارع أيضًا،
لكن كانت الإعلامية الرائدة آمال فهمي هي التي تقدم الفوازير في الأغلب الأعم.
أما المسلسلات الإذاعية، فأذكر جيدًا ما قدمه الثنائي الكوميدي الأشهر فؤاد المهندس وشويكار مثل (العتبة جزار)، و(سفاح النساء)، و(أنت اللي قتلت بابايا)
كذلك أذكر جيدًا مسلسلات (أنف وثلاث عيون) لعمر الشريف ونادية لطفي وسميرة أحمد ورشا مدينة، و(أفواه وأرانب) لفاتن حمامة ومحمود ياسين وفريد شوقي،
لكن تظل حرب أكتوبر أكثر الأحداث الرمضانية العالقة في ذاكرتي لأن أشقائي الكبار الثلاثة إبراهيم وفكري وفوزي كانوا يواجهون العدو في القناة،
بينما كانت أسرتي تمضغ القلق في الليل والنهار، وكنت، وأنا قريب من الثالثة عشر آنذاك منشغل جدًا بالبحث عن طريقة لأشارك أشقائي معركة تحرير الأرض!.
- متى بدأت رحلتك مع الأدب؟
** لم أعشق الأدب فقط، بل أحسبني شغوفا بالفنون والآداب كلها حتى قبل أن أولد، وربما يعود الأمر، في جانب منه، إلى منظومة الجينات التي ورثتها عن أبي،
فوالدي كان مثقفا عصاميًا بامتياز كما قلت سابقا، على الرغم من أنه لم يكمل تعليمه الابتدائي نظرًا لوفاة والده (جدي إبراهيم)، وهو طفل في السابعة،
لكنه قرأ وانفعل بكتابات طه حسين وسلامة موسى والعقاد وما تيسر من ترجمات جوته ونيتشة وشكسبير ودوستويفسكي وغيرهم،
كما كان يحفظ أشعار المتنبي وأبي نواس وشوقي وحافظ، وحرص على ارتياد المسرح والسينما بانتظام في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي،
فشاهد يوسف وهبي والريحاني وأنور وجدي وعزيزة أمير وأمينة رزق وبدر لاما ومحمود ذوالفقار ومحسن سرحان ويحيى شاهين وغيرهم،
وكم كان مفتونا بعبدالوهاب وأم كلثوم، وقد أورث أبناءه جميعًا عشق الأدب والفن وحب الوطن وفضيلة الحكمة، (نحن سبعة أشقاء وترتيبي السادس)،
علاوة على أنه قام بتعليم والدتي القراءة والكتابة، لذا نشأت عاشقا للآداب والفنون جميعها، فانضممت إلى فريق التمثيل في كلية الفنون الجميلة بالزمالك التي التحقت بها عام 1979،
وشاركت بالتمثيل في عدة مسرحيات مثل (مارا/ صاد) عام 1982، و(جحا يحكم المدينة) سنة 1983.
كذلك أخرجت لمركز شباب المنشية بشبرا الخيمة في الثمانينيات عدة مسرحيات مثل (ملك القطن) ليوسف إدريس، و(آخر الرجال البسطاء) لمحمد القدوسي،
كما شاركت في تأسيس فرقة الطيف والخيال مع المرحوم بهائي الميرغني وشاركت بالتمثيل في مسرحيات (لعبة التمساح)، و(سكة السرايا الصفرا) مع الصديق خالد الصاوي وعزة الحسيني ويوسف إسماعيل وناصر عبدالتواب في 1988،
ثم أسست فرقة (تمرد) المسرحية عام 1990، وأخرجت لها مسرحيات (مانرضاش) لسعيد شعيب، و(طبلية من السما) ليوسف إدريس، و(المسرحية ممنوعة)، ثم هجرت العمل بالمسرح نهائيًا عام 1993، وتفرغت للصحافة والرسم والإبداع القصصي والروائي.
علمًا بأنني أسست عام 1981 مجلة مطبوعة اسمها (أوراق) مع أصدقائي محمد القدوسي وسعيد شعيب ومحمود الجمل، وأصدرنا منها سبعة أعداد،
وكان شعارها (أدب. فن. فكر)، وأذكر أنني أجريت ساعتها حوارات مع مصطفى أمين وصلاح عبدالصبور، وكان معي زملائي في تلك الحوارات.
- ما أبرز إنجازاتك في دنيا الصحافة قبل أن تغادر إلى دبي؟
** احترفت العمل في الصحافة مع نهاية الثمانينيات، فعملت رسامًا ومحررًا ثقافيًا في جرائد مصر الفتاة وصوت الشعب والأحرار والشعب والعربي وأخبار الأدب،
كما عملت مراسلا صحفيًا لجرائد القدس العربي في لندن والبيان الإماراتية والجزيرة السعودية، ونشرت دراسات تشكيلية كثيرة في مجلة سطور المصرية والعربي الكويتية، كل ذلك حتى نهاية 1998،
والحق لقد نشرت مئات الحوارات والتحقيقات والمقالات والرسوم في هذه الصحف كلها، وأذكر بامتنان باب (حكايتي مع الكتاب) الذي كنت أحرره لملحق جريدة البيان الإمارتية الخاص بالكتب.
في هذا الباب أجريت حوارات مطولة مع نجوم الأدب والفن حول مكتباتهم، فكنت أزورهم في بيوتهم وأطالع محتوى مكتبة كل منهم، وأذكر من هؤلاء الكبار:
بيكار وأحمد عبدالمعطي حجازي ومحمود ياسين وصلاح السعدني وسعد أردش والدكتور سليمان حُزيّن وزير الثقافة الأسبق وحلمي التوني ومحمد نوح وعز الدين نجيب وجابر عصفور وصبري منصور ومختار العطار وفاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة وغيرهم.
- حدثني عن تجربتك في الإمارات، وماذا أعطت لك دبي؟
** غادرت إلى دبي في 23 يناير 1999، حين عرضوا عليّ المشاركة في تأسيس دار الصدى للصحافة، التي أسسها الشاعر الإماراتي سيف المري،
وبالفعل أسسنا مجلة الصدى الأسبوعية وكنت رئيس القسم الثقافي بها لمدة ست سنوات ونصف السنة،
ثم أسست مجلة دبي الثقافية في نهايات عام 2002، وهي من إصدارات دار الصدى أيضًا، وصدر العدد الأول منها في أكتوبر 2004، وظللت مديرًا لتحريرها حتى فبراير 2010،
فأصدرت منها 57 عددًا وأشرفت على إصدار 33 كتابًا كانت توزع مجانا على سبيل الهدية مع كل عدد،
وأظن أننا وضعنا أسسًا جديدة لمفهموم المجلة الثقافية يواكب عصر الصورة والفضائيات، وقد تواصلت بشكل منتظم مع كبار المبدعين في العالم العربي ليشاركوا معنا في تحريرها أذكر منهم:
رجاء النقاش وأدونيس وحجازي وصلاح فضل وإبراهيم الكوني وعبدالعزيز المقالح وعبدالسلام المسدي وجابر عصفور ومحمد براده وأمجد ناصر وفراس السواح ومحمد صابر عرب وعلي جعفر العلاق وصالح هويدي وحاتم الصكر ويحيى البطاط
وشاكر عبدالحميد وعبده وازن وسعدية مفرح وليلى العثمان وجمال مطر ومحمد حسن الحربي وأحمد الشهاوي ومصطفى عبدالله وفيصل دراج ومحمد علي شمس الدين وغيرهم كثير، وأشهد أنهم جميعا كانوا مثالا للالتزام والذوق والأدب الرفيع.
- أصدرت حتى الآن 11 رواية، وحصلت روايتك (الأزبكية) على جائزة كتارا الكبرى للرواية العربية سنة 2016، كما وصلت روايتك (العاطل) إلى القائمة القصيرة للبوكر عام 2012، ووصلت روايتك (نساء القاهرة. دبي) إلى القائمة القصيرة في جائزة (أرى روايتي) بأبوظبي عام 2018، فماذا تشكل الجوائز بالنسبة لك؟ وما أبرز ما تراعيه عند الشروع في الكتابة؟
** لا ريب في أن الفوز بالجوائز يحفز المرء على المزيد من الإتقان، وتشعره أن جهده لم يذهب هباء، وكما قال بريخت (الكتابة بدون مجد أمر صعب)،
أما ما أحرص عليه وأعض عليه بالنواجذ، فهو الأسلوب، لأن (الرجل هو الأسلوب) كما قال الكاتب الفرنسي جورج بوفون،
لذا أحاول كثيرًا أن تأتي رواياتي محكمة الصنع متينة البناء ومصوغة بأسلوب جذاب يتكئ على لغة فصحى رشيقة وعذبة وشائقة… أقول أحاول، والحكم في النهاية للقارئ الكريم والناقد الحصيف.
- ماذا عن المجاملات الثقافية في الوسط الثقافى، وأنت تعمل بداخل المطبخ الثقافى بمصر وخارجها منذ سنوات طويلة؟
** المجاملة في حد ذاتها أمر مشروع لنشيع بين الناس الذوق والرقة عند تعاملهم مع بعضهم بعضًا، والمجاملات في الوسط الثقافي جزء من منظومة المجاملات الاجتماعية، لا ضرر منها، بل مفيدة ومطلوبة لإحداث التوازن النفسي في المجتمع،
لكن الخطر إذا زادت المجاملة عن حدها، فصارت نفاقا رخيصًا مذمومًا ترفع من شأن من لا يملكون المواهب الخصبة المتدفقة، وأظن أن كل عصر ثقافي شهد نوعًا من ذلك النفاق الرخيص.
- هل تلاحظ أزمة النقد الموجودة حاليا، وكيف الخروج منها؟
** بصراحة، من الصعب إلقاء اللوم على النقاد، فالمطابع تلد كل يوم عشرات الأعمال الروائية، بحيث أمسى من الصعب على الحركة النقدية متابعة كل ما تجود به قريحة المبدعين،
لكني أطمع وأثق بذكاء كل ناقد حصيف يهب لنا من خبراته ما يرشدنا الى النص المتميز.
- في روايتك (نساء القاهرة. دبي)، كتبت عن عدة أجيال مختلفة، وكتبت الكثير من الآراء السياسية، والدينية علي لسان أبطال الرواية مسلمين، ومسيحيين،
فما كان هدفك منها، هل كان تأريخا لفترة معينة من حياة الناس، أم رصد لحالة القلق الديني المتصاعد بعد أن كانت مصر هادئة بكل طوائفها؟
** أظن أنني حاولت رصد التحولات السلبية العنيفة التي شهدتها مصر في أكثر من نصف قرن، فأنا رجل قد شهدت بنفسي معظم هذه التحولات،
والروائي الحق هو من يلمح المثالب والثغرات ويعمل على محاولة فهم أسبابها، ولكن بأسلوب فني متميز.
- كيف تري الجوائز العربية، وهل تبرأها من المجاملات، وماذا قدمت هذه الجوائز للثقافة المصرية والعربية؟
** لقد أتاح لي القدر تأسيس جائزتين مهمتين والإشراف على عملهما هما (جائزة دبي الثقافية للإبداع) بدبي، والتي أدرتها طوال 11 سنة،
و(جائزة البحرين لحرية الصحافة) بالمنامة، وقد أدرتها لدورة واحدة فقط، كما كنت عضوًا في العديد من لجان التحكيم في أكثر من جائزة مرموقة،
وأستطيع الجزم بأن نسبة المجاملات في تلك الجوائز قد لا تزيد عن خمسة في المائة، علمًا بأن الجوائز تلعب دورًا بالغ الأهمية في تطوير المنتج الإبداعي،
فالمنافسة تشعل الرغبة في التجويد والإتقان، ولعل ما شهدناه من تطور متسارع في عالم الهواتف المحمولة يؤكد ذلك،
فكل يوم هناك قفزات تكنولوجية غير مسبوقة بهدف تحقيق مبيعات أكثر وربح متزايد. ليتنا نطلق الجوائز السخية في كل فروع الإبداع لنظفر بنصوص جيدة ممتعة.
- أخيرًا إذا خيرت بين أن تكون صحفيا طوال حياتك، أو كاتبا للرواية، أيهما تختار؟
** بلا تردد، أختار الروائي وأنحاز إليه بشدة، فالروائي خلّاق… مبتكر… راصد… لمّاح… يتأنى… يتأمل… يغوص… يحلم… يرفض… والأهم، يستمتع وهو يكتب، ويهب المتعة لمن يقرأ له،
وكما قال ماركس بحق (الفن هو أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع أن يهبها الإنسان لنفسه). والروائي فنان بكل تأكيد،
بينما الصحفي مهنة أخرى تمامًا، مهنة جادة محترمة تهدف إلى متابعة الخبر وتحليله وتسليط الضوء على مشكلات المجتمع وعثرات الحكومات.
- يقولون إن الشعر ديوان العرب، والآن يقال إن الرواية أصبحت هي ديوان العرب، فما قولك، ولماذا تراجع الشعر؟
** أتخيل أن فن الرواية هو الأقدر على التعبير عن تعقيدات المجتمع وتناقضاته الحادة التي استعرت في نصف القرن الأخير،
ومع ذلك، فإن الشاعر الموهوب الذي يتقن لغته ويتمتع بخيال خصب قادر على فرض قصائده على الذائقة العامة،
وأظن أننا لو أطلقنا جوائز سخية في الشعر سنعمل على استرداد البهاء المفقود للقصيدة العربية.
- هل من جديد لديك؟ وماذا تفعل الآن؟
** أجل… لدي رواية ستصدر عقب عيد الفطر مباشرة عن دار الشروق، اسمها (الأنتكخانة)، وهي تغوص في نهاية عصر الخديو إسماعيل وتأسيسه لأول متحف في مصر. أما الآن، فأعكف على كتابة رواية جديدة، فأنا أكتب يوميًا، ولا أكاد أتوقف