لماذا نقرأ هذا الكتاب مرتين؟ *
كان عباس العقاد يقول إن قراءة كتاب واحد ثلاث مرات أفضل من قراءة ثلاثة كتب لمرة واحدة، وبالطبع الرجل كان يقصد الكتاب الجيد.
الحق أن ثمة كتبًا عديدة ينبغي أن يعود لها المرء غير مرة، كما أن هناك كتبًا شاحبة لا تغري بعودة الاطلاع عليها فور الانتهاء من سطورها، فما السر في ذلك؟.
هل يكمن الكتاب الجيد في فكرته الطازجة؟ أم في قدرته على التأثير في القارئ؟ وما هي الوسيلة التي يستخدمها الكاتب لإحداث هذا التأثير؟ أم في كل ذلك معًا؟.
في البداية عندي توضيح ينبغي تحريره وهو أنني أتحدث عن القارئ الحصيف صاحب التجربة الجيدة مع عالم الكتاب، ولا أتناول هنا القارئ الكسول أو ذلك الذي ولج حديثًا دنيا القراءة، فتشبعه الكتب الساذجة ذات المحتوى البسيط.
في ظني أن براعة اللغة هي الحاكم الأول في جذب الإنسان للقراءة ثم إعادة القراءة، فالكاتب الذي يملك المهارات اللغوية المناسبة هو القادر على طرح فكرته بصياغات مبتكرة واضحة تخلب ألباب القراء المحترفين،
الأمر الذي يدفع الإنسان إلى إعادة القراءة وهو في حالة نشوة كلما طالع هذا الفصل أو تلك الفقرة من الكتاب.
لاحظ أنني لا أتحدث هنا عن نوع معين من الكتب الرائعة التي نعاود قراءتها مرة ومرة، إذ إن الفيصل هو اللغة ومنطق الطرح وأسلوب الصياغة، بغض النظر عن محتوى هذا الكتاب أو ذاك،
وقد قال الكاتب الفرنسي جورج دي بوفون (1707/ 1788) بحق: (إن الأسلوب هو ألرجل).
تتبدى القيمة الكبرى في أهمية الأسلوب في القرآن الكريم، فالآيات العديدة تتسم بأسلوب بالغ الإعجاز، فاللغة القرآنية المقدسة مترعة بالبلاغة والحلاوة والطلاوة،
الأمر الذي يكشف مقدرة اللغة في التأثير، فكلنا يحفظ ما تيسر من آي الذكر الحكيم، وكلنا يردد العديد من السور القرآنية كل يوم، وكلنا يطرب مع هذه الآية أو تلك السورة.
صحيح أن اللغة هنا لغة سماوية مغلفة بالقداسة والألق، إلا أن البشر أيضًا كتبوا وأبدعوا باللغة، فعبقرية المتنبي وشوقي والسياب وصلاح عبدالصبور وحجازي ونزار ومحمود درويش في الشعر تتجلى في قدرتهم الخارقة على ترويض اللغة وابتكار صياغات جديدة مشحونة بطاقات تعبيرية جميلة.
أما في النثر، فإن لغة طه حسين وتوفيق الحكيم وسلامة موسى ونجيب محفوظ أزهرت وأثمرت وأمتعت ملايين القراء ومازالت،
فالأفكار التي تحملها لنا لغة هؤلاء الأساتذة العظام ما كان لها أن تؤثر لو أنهم قدموها في لغة شاحبة باردة قلقة محرومة من العذوبة والصفاء.
من هنا لا عجب ولا غرابة في أن يعود المرء إلى قراءة ما تيسر من شعر شوقي ودرويش وروايات محفوظ وماركيز ومسرح شكسبير وسعدالله ونوس وأفكار سلامة موسى ومحمود العالم وغيرهم ممن تألقت على أيديهم اللغة واستجابت لمهاراتهم الفذة.
باختصار… اللغة المشرقة مثل حنجرة أم كلثوم، نعاود قراءتها فنبتهج ونرتوي، ونسمع أم كلثوم فنطرب وننتشي.