خلال الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، ساد اعتقاد راسخ لدى الأوروبيين بأنهم متفوقون بطبيعتهم على الشعوب الأفريقية، وفي تلك الفترة، أيد العديد من القادة الأوروبيين العنصرية البيولوجية؛ ورأوا أن شعوب أفريقيا لا تستطيع ولا ينبغي لها أن تحكم نفسها، وهو أمر لا يختلف كثيرًا عن نظرة اليهود لأنفسهم باعتبارهم “شعب الله المختار” الذي له الحق في أرض فلسطين على حساب سكانها الأصليين أصحاب الأرض تاريخيا.
وهكذا، يتشابه ماضي الدول الأفريقية مع واقع ما يحدث في فلسطين منذ 75 عامًا، فأوروبا التي استعمرت أفريقيا لنهب خيراتها، كانت وراء نشأة كيان الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أيضًا بوضع اليد، فقد أرادت التخلص من صداع اليهود في دولها وإرسالهم بعيدا حتى لو على حساب شعب أصيل ودولة تاريخية.
أوروبا تتخلص من اليهود
تزايد الاضطهاد الأوروبي لليهود خلال نهايات القرن 19، وخلال تلك الفترة بدأت أوروبا في إقناع اليهود بأنهم بحاجة إلى وطنهم الخاص، وبدا وطن أجدادهم، كما يتوهمون وكأنه المكان المناسب لتأسيسه، وفي الثاني من نوفمبر عام 2017، بدأت بريطانيا الخطوة الفعلية الأولى للغرب من أجل إقامة كيان لليهود على أرض فلسطين؛ حيث صدر وعد بلفور، وزير الخارجية البريطاني وقتها، الذي أعطى اليهود الحق في تأسيس وطن قومي لهم ليكون مقدمة للنكبة الفلسطينية.
وبين عامي 1896 و1948، أعيد توطين مئات الآلاف من اليهود من أوروبا في فلسطين التي كانت تحت السيطرة البريطانية، وفي عام 1947 صوتت الأمم المتحدة على تقسيم البلاد إلى دولتين، وذهب جميع اليهود البالغ عددهم 650 ألفًا تقريبًا إلى ليستوطنوا فلسطين بعدما قبلوا الصفقة التي قد قاومها الفلسطينيون، ورأت الدول العربية أن تدفق اليهود هو حركة استعمارية أوروبية، وفي وقت لاحق، أعلنت مصر، والأردن، والعراق، وسوريا، الحرب على إسرائيل أيضًا.
هزمت قوات الاحتلال القوات الفلسطينية والجيوش العربية في حرب شرسة، أدت لتحويل 700 ألف مدني فلسطيني إلى لاجئين، وبينما أعطت الأمم المتحدة 56% من فلسطين البريطانية للدولة اليهودية عند التقسيم، بحلول نهاية الحرب، كانت إسرائيل تمتلك 77% من الأراضي.
وهكذا تعيش فلسطين لعقود، تحت نير استعمار يشابه في دوافعه نفس دوافع الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، وخلال عقود لم يتوانَ الفلسطينيون في النضال من أجل التحرر واستعادة بلادهم في ظل صمت المجتمع الدولي وتغطية مضللة من الإعلام العالمي.
سياسات الاستعمار الوحشية
لا تختلف طبيعة سياسات الاحتلال الإسرائيلي بأي حال عن سياسات أوروبا الاستعمارية في أفريقيا والتي دأبت على ردع أي محاولة للمقاومة بالمذابح الدامية، فإذا ارتكبت جماعتا أرجون وشتيرن عام 1948 مجزرة راح ضحيتها 250 شهيدًا معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن في قرية دير ياسين غرب القدس، فقد قامت فرنسا بقتل ما يقرب من 45 ألف شخص بالجزائر في مايو عام 1945، خلال قمع لتظاهرات خرجت للمطالبة استقلال الجزائر.
رفع المتظاهرون علم بلادهم وهتفوا “تحيا الجزائر المستقلة”، تمامًا كما كان يفعل الفلسطينيون في التظاهرات والانتفاضات الرافضة للاستعمار، ومثل إسرائيل فتحت الجزائر النار على المتظاهرين مع توسع الاحتجاجات إلى باقي مدن البلاد، وتم تنفيذ أحكام الإعدام بلا رحمة لمجرد الاشتباه.
وحتى موجات القصف الإسرائيلي على قطاع غزة التي ينتفض العالم احتجاجًا عليها اليوم، لا تختلف عن قصف القوات الفرنسية لقرى بأكملها تضم من 5 إلى عشرة آلاف نسمة، وتدميرها للاشتباه في اختباء أفراد من المقاومة داخلها، وفي غضون 15 يومًا وصل عدد موجات القصف إلى 20 دُمرت على إثرها 44 قرية، بينما أزيلت قرى أخرى من على الخارطة بالكامل.
انتفاضة ماو ماو
قصة أخرى تفضح وحشية الاستعمار الأوروبي في أفريقيا المشابهة لما يحدث في فلسطين، هي انتفاضة ماو ماو التي كانت خطوة نحو تحرر كينيا من الاحتلال البريطاني، وبدأت في عام 1952 عندما لجأ مقاتلو ماو ماو للاحتجاج على التهميش ونهب الاحتلال لأراضيهم بمهاجمة مزارع المستوطنين البيض، لتعلن بريطانيا حالة الطوارئ في البلاد ويستمر القتال حتى عام 1960.
رسميًّا كان عدد القتلى من الماو ماو والمحتجين الآخرين 11 ألف قتيل، مقابل قتل 32 مستوطنًا أبيض خلال سنوات الطوارئ الثمانية، بينما ذكرت لجنة حقوق الإنسان الكينية أنه تم تنفيذ أحكام بالإعدام والتعذيب والتشويه في حق ما يقرب من 90 ألف كيني، بينما كان السجن مصير 160 ألف آخرين اعتُقلوا في ظروف غير آدمية.
أبارتايد فلسطين
لقد كان التوجه العام لدول آسيا الوسطى إبان الاستقلال هو استغلال ضعف موسكو في بناء علاقات قريبة مع الغرب والابتعاد عن السيطرة الروسية، غير أن هذا الحلم لم يتحقق نظرا لعدم ثقة الغرب بالزعامات الجديدة التي في الحقيقة كانت امتدادا للحقبة السوفياتية المستبدة مما جعلت هذه الدول تقترب من موسكو من جديد خصوصا في حقبة الرئيس فلاديمير بوتين.
ومن الملاحظ في هذه الأطر هو تقوقع تركمانستان على نفسها بزعامة رئيسها الراحل صابر مراد نيازوف الذي حكم البلد خلال 15 عاما بفلسفته الخاصة وطريقته الفريدة في الاستبداد.
وهناك عوامل أخرى لعدم نجاح الأطر الرسمية منها تطلع الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف للعب دور الشرطي في آسيا الوسطى نظرا لموقع أوزبكستان الجيوإستراتيجي التي تتاخم الدول الأربع الباقية والتي تضم أكبر تجمع بشري في المنطقة. لقد أدت سياسات الرئيس الأوزبكي المتشددة إلى تأرجحه الشديد بين المحور الأوروبي الأميركي والمحور الروسي الصيني مما يعطي انطباعا واضحا على سيطرة الأجندات الخاصة لهذه الدول على قائمة الأولويات. وتشهد هذه الأطر الرسمية اهتماما كبيرا من دول آسيا الوسطى حينما يتعلق الأمر بالأمن الجماعي وخطر الإرهاب والأصولية الإسلامية ويعتبر التعاون الأمني أحد أهم القضايا المشتركة في أجندة الاجتماعات الرسمية لزعماء ومسؤولي هذه الدول.
ويبقى ملف الحدود مفتوحا للنقاش بين بعض دول آسيا الوسطى حيث تم رسمها أثناء الحكم الشيوعي في عشرينيات القرن الماضي وتم توزيع القوميات والعرقيات بشكل يخدم مصالح موسكو آنذاك، غير أن هذه الحدود خلقت مشاكل عديدة بين هذه الدول بعد الاستقلال.
يتطلع الفلسطينيون جميعاً في الوطن والشتات عموماً، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، ومعهم شعوب الأمة العربية والإسلامية الصادقة، وأحرار العالم وإنسانيوه، وطلابه الغيارى الثائرون، الذين انتفضوا ضد العدوان الإسرائيلي وتضامناً مع الشعب الفلسطيني ونصرةً وتأييداً له، إلى اليوم الذي تتوقف فيه الحرب الهمجية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وينتهي العدوان المستمر على سكانه، الذي تجاوز اليوم يومه ألــــــ 223، وتسبب في استشهاد وإصابة أكثر من مائة وخمسين ألف فلسطيني، وتدمير ما يزيد عن 75% من بيوت الفلسطينيين ومنازلهم، ومدارسهم ومساجدهم، وأسواقهم ومحالهم التجارية، ومخابزهم وخزاناتهم، ومستشفياتهم ومراكزهم الصحية والطبية، وصيدلياتهم ومستودعاتهم الدوائية، وحصارهم الخانق وحرمانهم التام من الغذاء والماء والدواء والكهرباء ومن كل مستلزمات الحياة البسيطة والحاجات الإنسانية الطبيعية.
ربما لا يوجد شعبٌ مثل الشعب الفلسطيني في تاريخ البشرية، تعرض لمثل هذا العدوان المتواصل، وأصابه القتل من كل مكان، ولحق به الحيف من كل الجهات، وتخلى عنه الأشقاء والجيران، وصمتت عما يتعرض له حكوماتٌ عربيةٌ وأخرى إسلامية، وساهم في العدوان عليه تحالفٌ دوليٌ متآمر، أمد العدو بالسلاح والمال، وزوده بالذخائر والمعدات، وأيده في السياسة وسانده من أعلى المنصات الدولية، واشتركت في قتله وتسببت في نكبته الجديدة دولٌ وحكومات، وما زال صابراً محتسباً، ثابتاً باقياً، مقاوماً مقاتلاً، لا ينحني ولا يركع، ولا يستسلم ولا يخضع، ويصر على التحدي، ويعاند في المواجهة، وينال من العدو ويصيبه، ويطال جنوده وضابطه ويؤلمهم.
العالم كله يرى أهل قطاع غزة يتضورون جوعاً ويموتون من العطش، ويلفظون أنفاسهم بسبب الإصابة والمرض، ونتيجة نقص الدواء وانعدام العلاج، ويقتلون من كل جانبٍ وتدك أرضهم بكل الوسائل، وتسقط البيوت فوق رؤوسهم، ويستخرج من نجا من القتل منهم جثامين الشهداء من تحت الأنقاض، ويزيحون بأيديهم الركام بحثاً عن أحياء يستنقذونهم، أو شهداء يستخرجونهم ليواروهم الثرى في مقابر جماعية، بعد أن ضاقت الأرض بهم وعجز جوفها عن استيعاب الآلاف من شهدائهم، ويعلم من يقوم بهذه المهام اليوم، أنه قد يسقط غداً شهيداً، وسيأتي غيره من يحل مكانه وينتشل من تحت الركام جثمانه، ليدفن إلى جانب إخوانه ومن سبقوه، وكأن الشهيد يودع الشهيد، ومن بقي ينتظر بلا خوفٍ دوره، ويتوقع بلا جزعٍ مصيره.
أما المرأة الفلسطينية، الأم والأخت والابنة، فقد تهيأن للشهادة وصبرن على المصاب، وودعن فلذات القلوب والأحباب، وقبلن جباههم والوجنات، وقلن لهم مع السلامة وسلامنا لمن سبقوكم أجمعين، اللهم ارض عنهم فإنهم سابقون وإنا عنهم راضون، وقد تسترن بالثياب فلا يكشفن، وسترن أجسادهن فلا يعرين، ولبسن جيداً فلا ينزع إذا استشهدن حجابهن، ولا تكشف عوراتهن، وكأنهن من الموت لا يخافون، أما عن الستر فهم يحرصون، وعلى ألا يكشفن يصرون. كل من في غزة اليوم مصابٌ ومبتلى، شهيدٌ أو جريحٌ، نازحٌ أو بلا مأوى، مشردٌ أو بلا خيمة، جائعٌ أو بلا طعام، ومريضٌ أو بلا علاج، ووحيدٌ أو بلا أهل، ومن بقي في منطقته فهو لم يعد يعرفها، إذ غير العدوان معالمها، وبدل مشاهدها، بعد دمر بنيانها وجرف شوراعها، وحرق كل شاهدٍ عليها، ودمر كل شارةٍ تدل عليها أو تميزها، وكأن حياةً لم تكن فيها، وأهلاً ما كانوا يسكنون فيها، إذ قضى العدو على كل مظاهر الحياة فيها، وسعى إلى منع كل وسيلةٍ تعيد إعمارها أو تبقي على ما بقي من عمرانها.
يتمنى الفلسطينيون أن تنتهي كل المظاهر السابقة، وتتوقف الحرب وينسحب الاحتلال ويفشل العدوان، ليعودوا إلى حياتهم الأولى التي كانوا عليها، والبيوت التي كانوا يسكنون فيها، ولا يهمهم أبداً أن يعودوا إلى مناطقهم المدمرة التي سويت بيوتها وهدمت مبانيها، وأصبحت خراباً بلا خدماتٍ، ويباباً بلا مظاهر حياة، بل يهمهم أن يعودوا إلى حيث كانت بيوتهم، يزيحون بعض ركامها، ويبنون مما بقي من حجارتها غرفةً تسترهم، أو زاويةً تجمعهم، أو ينصبون فوق ركام بيوتهم خياماً فيها يجلسون وتحتها ينامون، فهذا حلمهم ومُنَى حياتهم، رغم غصة الفقد ومرارة الحرمان، وحزن الشهادة ولوعة الثكل.
رغم كل هذا الذي ذكرت والكثير مما يراه المراقبون ويتابعه المهتمون وتسجله وتوثقه وسائل الإعلام، فإن أهل غزة جميعاً، وأقصد سكانها الذين ما زالوا فيها، ممن اكتوا بنار الحرب وذاوقوا ويلاتها، وأصابهم ما أصابهم من تداعياتها، وما زالوا ينتظرون مصيرهم ويترقبون مستقبلهم، فإنهم وإن كانوا يتطلعون إلى انتهاء المحنة ورفع الغمة وكشف البلاء، فإنهم لن يقبلوا في سبيل هذا الهدف المشروع والمطلوب، تقديم تنازلٍ، أو التفريط في حقوق، أو القبول بالاحتلال والسكوت عن التقسيم، أو التعايش مع الحصار والموافقة على الحرمان، بل يريدون نصراً عزيزاً وهدنةً كريمةً، تحقق أهدافهم، وتلبي طموحاتهم، وتحقن دماءهم، وتعيدهم أعزةً أحراراً إلى بيوتهم، وتبقي رؤوسهم مرفوعة، وقاماتهم شامخة وجباههم عالية، فلا حياةً يريدونها بهوان، ولا هدنةً يتطلعون إليها بِضِعَةٍ، وإنما صفقةً تذل العدو وترفعهم، وتطرده من غزة وتحفظهم.
العلاقة التاريخية بين القوى الاستعمارية والنظم المستبدة
الدكتور عادل عامر
خلال الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، ساد اعتقاد راسخ لدى الأوروبيين بأنهم متفوقون بطبيعتهم على الشعوب الأفريقية، وفي تلك الفترة، أيد العديد من القادة الأوروبيين العنصرية البيولوجية؛ ورأوا أن شعوب أفريقيا لا تستطيع ولا ينبغي لها أن تحكم نفسها، وهو أمر لا يختلف كثيرًا عن نظرة اليهود لأنفسهم باعتبارهم “شعب الله المختار” الذي له الحق في أرض فلسطين على حساب سكانها الأصليين أصحاب الأرض تاريخيا.
وهكذا، يتشابه ماضي الدول الأفريقية مع واقع ما يحدث في فلسطين منذ 75 عامًا، فأوروبا التي استعمرت أفريقيا لنهب خيراتها، كانت وراء نشأة كيان الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أيضًا بوضع اليد، فقد أرادت التخلص من صداع اليهود في دولها وإرسالهم بعيدا حتى لو على حساب شعب أصيل ودولة تاريخية.
أوروبا تتخلص من اليهود
تزايد الاضطهاد الأوروبي لليهود خلال نهايات القرن 19، وخلال تلك الفترة بدأت أوروبا في إقناع اليهود بأنهم بحاجة إلى وطنهم الخاص، وبدا وطن أجدادهم، كما يتوهمون وكأنه المكان المناسب لتأسيسه، وفي الثاني من نوفمبر عام 2017، بدأت بريطانيا الخطوة الفعلية الأولى للغرب من أجل إقامة كيان لليهود على أرض فلسطين؛ حيث صدر وعد بلفور، وزير الخارجية البريطاني وقتها، الذي أعطى اليهود الحق في تأسيس وطن قومي لهم ليكون مقدمة للنكبة الفلسطينية.
وبين عامي 1896 و1948، أعيد توطين مئات الآلاف من اليهود من أوروبا في فلسطين التي كانت تحت السيطرة البريطانية، وفي عام 1947 صوتت الأمم المتحدة على تقسيم البلاد إلى دولتين، وذهب جميع اليهود البالغ عددهم 650 ألفًا تقريبًا إلى ليستوطنوا فلسطين بعدما قبلوا الصفقة التي قد قاومها الفلسطينيون، ورأت الدول العربية أن تدفق اليهود هو حركة استعمارية أوروبية، وفي وقت لاحق، أعلنت مصر، والأردن، والعراق، وسوريا، الحرب على إسرائيل أيضًا.
هزمت قوات الاحتلال القوات الفلسطينية والجيوش العربية في حرب شرسة، أدت لتحويل 700 ألف مدني فلسطيني إلى لاجئين، وبينما أعطت الأمم المتحدة 56% من فلسطين البريطانية للدولة اليهودية عند التقسيم، بحلول نهاية الحرب، كانت إسرائيل تمتلك 77% من الأراضي.
وهكذا تعيش فلسطين لعقود، تحت نير استعمار يشابه في دوافعه نفس دوافع الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، وخلال عقود لم يتوانَ الفلسطينيون في النضال من أجل التحرر واستعادة بلادهم في ظل صمت المجتمع الدولي وتغطية مضللة من الإعلام العالمي.
سياسات الاستعمار الوحشية
لا تختلف طبيعة سياسات الاحتلال الإسرائيلي بأي حال عن سياسات أوروبا الاستعمارية في أفريقيا والتي دأبت على ردع أي محاولة للمقاومة بالمذابح الدامية، فإذا ارتكبت جماعتا أرجون وشتيرن عام 1948 مجزرة راح ضحيتها 250 شهيدًا معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن في قرية دير ياسين غرب القدس، فقد قامت فرنسا بقتل ما يقرب من 45 ألف شخص بالجزائر في مايو عام 1945، خلال قمع لتظاهرات خرجت للمطالبة استقلال الجزائر.
رفع المتظاهرون علم بلادهم وهتفوا “تحيا الجزائر المستقلة”، تمامًا كما كان يفعل الفلسطينيون في التظاهرات والانتفاضات الرافضة للاستعمار، ومثل إسرائيل فتحت الجزائر النار على المتظاهرين مع توسع الاحتجاجات إلى باقي مدن البلاد، وتم تنفيذ أحكام الإعدام بلا رحمة لمجرد الاشتباه.
وحتى موجات القصف الإسرائيلي على قطاع غزة التي ينتفض العالم احتجاجًا عليها اليوم، لا تختلف عن قصف القوات الفرنسية لقرى بأكملها تضم من 5 إلى عشرة آلاف نسمة، وتدميرها للاشتباه في اختباء أفراد من المقاومة داخلها، وفي غضون 15 يومًا وصل عدد موجات القصف إلى 20 دُمرت على إثرها 44 قرية، بينما أزيلت قرى أخرى من على الخارطة بالكامل.
انتفاضة ماو ماو
قصة أخرى تفضح وحشية الاستعمار الأوروبي في أفريقيا المشابهة لما يحدث في فلسطين، هي انتفاضة ماو ماو التي كانت خطوة نحو تحرر كينيا من الاحتلال البريطاني، وبدأت في عام 1952 عندما لجأ مقاتلو ماو ماو للاحتجاج على التهميش ونهب الاحتلال لأراضيهم بمهاجمة مزارع المستوطنين البيض، لتعلن بريطانيا حالة الطوارئ في البلاد ويستمر القتال حتى عام 1960.
رسميًّا كان عدد القتلى من الماو ماو والمحتجين الآخرين 11 ألف قتيل، مقابل قتل 32 مستوطنًا أبيض خلال سنوات الطوارئ الثمانية، بينما ذكرت لجنة حقوق الإنسان الكينية أنه تم تنفيذ أحكام بالإعدام والتعذيب والتشويه في حق ما يقرب من 90 ألف كيني، بينما كان السجن مصير 160 ألف آخرين اعتُقلوا في ظروف غير آدمية.
أبارتايد فلسطين
لقد كان التوجه العام لدول آسيا الوسطى إبان الاستقلال هو استغلال ضعف موسكو في بناء علاقات قريبة مع الغرب والابتعاد عن السيطرة الروسية، غير أن هذا الحلم لم يتحقق نظرا لعدم ثقة الغرب بالزعامات الجديدة التي في الحقيقة كانت امتدادا للحقبة السوفياتية المستبدة مما جعلت هذه الدول تقترب من موسكو من جديد خصوصا في حقبة الرئيس فلاديمير بوتين.
ومن الملاحظ في هذه الأطر هو تقوقع تركمانستان على نفسها بزعامة رئيسها الراحل صابر مراد نيازوف الذي حكم البلد خلال 15 عاما بفلسفته الخاصة وطريقته الفريدة في الاستبداد.
وهناك عوامل أخرى لعدم نجاح الأطر الرسمية منها تطلع الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف للعب دور الشرطي في آسيا الوسطى نظرا لموقع أوزبكستان الجيوإستراتيجي التي تتاخم الدول الأربع الباقية والتي تضم أكبر تجمع بشري في المنطقة. لقد أدت سياسات الرئيس الأوزبكي المتشددة إلى تأرجحه الشديد بين المحور الأوروبي الأميركي والمحور الروسي الصيني مما يعطي انطباعا واضحا على سيطرة الأجندات الخاصة لهذه الدول على قائمة الأولويات. وتشهد هذه الأطر الرسمية اهتماما كبيرا من دول آسيا الوسطى حينما يتعلق الأمر بالأمن الجماعي وخطر الإرهاب والأصولية الإسلامية ويعتبر التعاون الأمني أحد أهم القضايا المشتركة في أجندة الاجتماعات الرسمية لزعماء ومسؤولي هذه الدول.
ويبقى ملف الحدود مفتوحا للنقاش بين بعض دول آسيا الوسطى حيث تم رسمها أثناء الحكم الشيوعي في عشرينيات القرن الماضي وتم توزيع القوميات والعرقيات بشكل يخدم مصالح موسكو آنذاك، غير أن هذه الحدود خلقت مشاكل عديدة بين هذه الدول بعد الاستقلال.
يتطلع الفلسطينيون جميعاً في الوطن والشتات عموماً، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، ومعهم شعوب الأمة العربية والإسلامية الصادقة، وأحرار العالم وإنسانيوه، وطلابه الغيارى الثائرون، الذين انتفضوا ضد العدوان الإسرائيلي وتضامناً مع الشعب الفلسطيني ونصرةً وتأييداً له، إلى اليوم الذي تتوقف فيه الحرب الهمجية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وينتهي العدوان المستمر على سكانه، الذي تجاوز اليوم يومه ألــــــ 223، وتسبب في استشهاد وإصابة أكثر من مائة وخمسين ألف فلسطيني، وتدمير ما يزيد عن 75% من بيوت الفلسطينيين ومنازلهم، ومدارسهم ومساجدهم، وأسواقهم ومحالهم التجارية، ومخابزهم وخزاناتهم، ومستشفياتهم ومراكزهم الصحية والطبية، وصيدلياتهم ومستودعاتهم الدوائية، وحصارهم الخانق وحرمانهم التام من الغذاء والماء والدواء والكهرباء ومن كل مستلزمات الحياة البسيطة والحاجات الإنسانية الطبيعية.
ربما لا يوجد شعبٌ مثل الشعب الفلسطيني في تاريخ البشرية، تعرض لمثل هذا العدوان المتواصل، وأصابه القتل من كل مكان، ولحق به الحيف من كل الجهات، وتخلى عنه الأشقاء والجيران، وصمتت عما يتعرض له حكوماتٌ عربيةٌ وأخرى إسلامية، وساهم في العدوان عليه تحالفٌ دوليٌ متآمر، أمد العدو بالسلاح والمال، وزوده بالذخائر والمعدات، وأيده في السياسة وسانده من أعلى المنصات الدولية، واشتركت في قتله وتسببت في نكبته الجديدة دولٌ وحكومات، وما زال صابراً محتسباً، ثابتاً باقياً، مقاوماً مقاتلاً، لا ينحني ولا يركع، ولا يستسلم ولا يخضع، ويصر على التحدي، ويعاند في المواجهة، وينال من العدو ويصيبه، ويطال جنوده وضابطه ويؤلمهم.
العالم كله يرى أهل قطاع غزة يتضورون جوعاً ويموتون من العطش، ويلفظون أنفاسهم بسبب الإصابة والمرض، ونتيجة نقص الدواء وانعدام العلاج، ويقتلون من كل جانبٍ وتدك أرضهم بكل الوسائل، وتسقط البيوت فوق رؤوسهم، ويستخرج من نجا من القتل منهم جثامين الشهداء من تحت الأنقاض، ويزيحون بأيديهم الركام بحثاً عن أحياء يستنقذونهم، أو شهداء يستخرجونهم ليواروهم الثرى في مقابر جماعية، بعد أن ضاقت الأرض بهم وعجز جوفها عن استيعاب الآلاف من شهدائهم، ويعلم من يقوم بهذه المهام اليوم، أنه قد يسقط غداً شهيداً، وسيأتي غيره من يحل مكانه وينتشل من تحت الركام جثمانه، ليدفن إلى جانب إخوانه ومن سبقوه، وكأن الشهيد يودع الشهيد، ومن بقي ينتظر بلا خوفٍ دوره، ويتوقع بلا جزعٍ مصيره.
أما المرأة الفلسطينية، الأم والأخت والابنة، فقد تهيأن للشهادة وصبرن على المصاب، وودعن فلذات القلوب والأحباب، وقبلن جباههم والوجنات، وقلن لهم مع السلامة وسلامنا لمن سبقوكم أجمعين، اللهم ارض عنهم فإنهم سابقون وإنا عنهم راضون، وقد تسترن بالثياب فلا يكشفن، وسترن أجسادهن فلا يعرين، ولبسن جيداً فلا ينزع إذا استشهدن حجابهن، ولا تكشف عوراتهن، وكأنهن من الموت لا يخافون، أما عن الستر فهم يحرصون، وعلى ألا يكشفن يصرون. كل من في غزة اليوم مصابٌ ومبتلى، شهيدٌ أو جريحٌ، نازحٌ أو بلا مأوى، مشردٌ أو بلا خيمة، جائعٌ أو بلا طعام، ومريضٌ أو بلا علاج، ووحيدٌ أو بلا أهل، ومن بقي في منطقته فهو لم يعد يعرفها، إذ غير العدوان معالمها، وبدل مشاهدها، بعد دمر بنيانها وجرف شوراعها، وحرق كل شاهدٍ عليها، ودمر كل شارةٍ تدل عليها أو تميزها، وكأن حياةً لم تكن فيها، وأهلاً ما كانوا يسكنون فيها، إذ قضى العدو على كل مظاهر الحياة فيها، وسعى إلى منع كل وسيلةٍ تعيد إعمارها أو تبقي على ما بقي من عمرانها.
يتمنى الفلسطينيون أن تنتهي كل المظاهر السابقة، وتتوقف الحرب وينسحب الاحتلال ويفشل العدوان، ليعودوا إلى حياتهم الأولى التي كانوا عليها، والبيوت التي كانوا يسكنون فيها، ولا يهمهم أبداً أن يعودوا إلى مناطقهم المدمرة التي سويت بيوتها وهدمت مبانيها، وأصبحت خراباً بلا خدماتٍ، ويباباً بلا مظاهر حياة، بل يهمهم أن يعودوا إلى حيث كانت بيوتهم، يزيحون بعض ركامها، ويبنون مما بقي من حجارتها غرفةً تسترهم، أو زاويةً تجمعهم، أو ينصبون فوق ركام بيوتهم خياماً فيها يجلسون وتحتها ينامون، فهذا حلمهم ومُنَى حياتهم، رغم غصة الفقد ومرارة الحرمان، وحزن الشهادة ولوعة الثكل.
رغم كل هذا الذي ذكرت والكثير مما يراه المراقبون ويتابعه المهتمون وتسجله وتوثقه وسائل الإعلام، فإن أهل غزة جميعاً، وأقصد سكانها الذين ما زالوا فيها، ممن اكتوا بنار الحرب وذاوقوا ويلاتها، وأصابهم ما أصابهم من تداعياتها، وما زالوا ينتظرون مصيرهم ويترقبون مستقبلهم، فإنهم وإن كانوا يتطلعون إلى انتهاء المحنة ورفع الغمة وكشف البلاء، فإنهم لن يقبلوا في سبيل هذا الهدف المشروع والمطلوب، تقديم تنازلٍ، أو التفريط في حقوق، أو القبول بالاحتلال والسكوت عن التقسيم، أو التعايش مع الحصار والموافقة على الحرمان، بل يريدون نصراً عزيزاً وهدنةً كريمةً، تحقق أهدافهم، وتلبي طموحاتهم، وتحقن دماءهم، وتعيدهم أعزةً أحراراً إلى بيوتهم، وتبقي رؤوسهم مرفوعة، وقاماتهم شامخة وجباههم عالية، فلا حياةً يريدونها بهوان، ولا هدنةً يتطلعون إليها بِضِعَةٍ، وإنما صفقةً تذل العدو وترفعهم، وتطرده من غزة وتحفظهم.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا