رائد فن الاستعراض في المسرح العراقي
المُتفرَّدون في بثِّ الوعي الجمعي، وصناعة الحياة بوصفها الجمالي والحضاري هم الذين يخلَّدهم التاريخ، وتشفع لهم الذاكرة الجمعية في الاستقرار في حاضنتها الدافئة، وفق معايير تأثيرهم في دوائر التلقي، ومحافل الإنصات، وعلى ضوء نتاجهم الفني المُجدِّد، فهم المؤثرون في الذائقة الجمعية، والذين تحفظ لهم الذاكرة الشعبية مفاتن نتاجهم عبر سفرهم الفني الطويل، لأنهم من الجبلة الأولى التي اختمرت على موارد الاشتغال على حبِّ العراق، ولأنهم من الفنانين الموشحين بقلائد التمَّيز والتفرَّد ومن الطراز الرفيع ، حيث ارتقى عملهم داخل مشغل المغايرة التي يعملون عليها، من خلال نضوج أفكارهم التي خلقت ذلك التنوّع في حواضن الحداثة، ومواعيد الفرجة (العرض) العائدة بتنوعها إلى رقي أطروحاتهم الفنية، والمعرفية، والفكرية، وبخاصة حينما تكون تلك الأطروحات قد لامست مراسيم الشغف الشعبي، وضمَّنت مجريات ذلك التماثل النبيل بين (العرض والمتلقي) المتفرج القادم من الطبقة الكادحة، ومن أبناء بيوت الصفيح، والذين خبرهم الفقر وخبروه، وأطاح الطغاة بأحلامهم المؤجلة، تلك الأحلام التي تواءمت بفعالية متلازمة مع الرافد الفكري لذلك النتاج المُعبِّر عن تطلعاتهم، والحافر في اتون مأساتهم اليومية، ومعاناتهم المستديمة، للخلاص إلى فسحات تطلعاتهم المستقبلية، وأمانيهم في معالم التغيير.
ويقف على رأس قائمة هؤلاء الفنانين الذين رسخوا هذا المعنى النبيل في الحاضنة الشعبية منذ بواكير الخمسينات الفنان الكبير (قصي البصري) ذلك النبل الإنساني الكبير، والوعي الفني المتدفق الذي أنجبته البصرة لتجبله بالفن الأصيل، والنبوغ الفكري، والذي تجوَّل في شوارع بغداد ليستنشق هواءها لإنعاش مراسيمه الفنية.
الفنان (قصي البصري) ذلك الإنسان الأصيل الراسخ في الذاكرة الفنية العراقية بامتياز استثناني، فهو الرائد الذي احدث ثورة كبيرة في فن الاستعراض من خلال أعماله الكبيرة في عالم (الاوبريت).
تميَّز الفنان (قصي البصري) في جلّ أعماله الفنية بوصفه مخرجا، بالبحث الدائم عن البؤرة الصورية، التي يمكن له من خلالها خلق متسع بصري جمالي يليق برؤيته الفنية التي تمخضت عن الكثير من الأعمال العرضية التي اتَّسمت بطاقة فرجوية عالية، يقف على رأس هذه الأعمال الاستعراضية الكبيرة أوبريت (بيادر خير) بطولة الفنان الراحل (فؤاد سالم) وقد لاقى الاوبريت نجاحا كبيرا في الأواسط الشعبية، وعلى المستوى النخبوي، والنقدي، لما له من تأثير على الذائقة الاستقبالية.
لقد حوَّل (البصري) باحة المسرح عبر أعماله الاستعراضية المسرحية إلى فضاء من الكتل الجمالية التي أسست مشروعا صوريا فائقا، حيث اهتم اهتماما بالغ الحظوة بالجانب الغنائي، والكتلوي، والتناظري، واللوني، والبيئي، والتقني لخلق حالة فاتنة من التجانس بين عناصر العرض وملاحق الفرجة، فكان المتفرَّد في رؤيته الحداثية التي تصبُّ في صالح أمكانية فرض التجديد في المسرح العراقي، فجاءت أعماله بكاملها حاملة لذلك المعنى الجمالي، وتلك السمات والمعايير والضوابط المغايرة التي أخذت على عاتقها إنجاب (الاوبريت) من رحم الصور الواقعية.
عمل الفنان الكبير (قصي البصري) في وقت مبكر في فن المسرح، والشاشة الصغيرة (التلفزيون) والشاشة الكبيرة (السينما) وكان مثالا راقيا للفنان الشامل الذي تمكن من الإجادة في أكثر من حقل من حقول التمثيل، والإخراج، والتأليف، والتلحين، لذا نجده مخلصا لأي قطب من هذه الأقطاب الفنية التي ابهر الجميع على قدرته الكبيرة في إتقان هذه الفنون التي تصبّ في المحصلة النهائية في حاضنة قدرته الفائقة على الحضور الفاعل في دائرة الضوء، والبقاء الطويل في الذاكرة الشعبية، والنخبوية التي حفظت له الكثير من الأعمال الفنية التي ما زالت عالقة في التاريخ، وفي الذاكرة الجمعية.
ومن الجانب الثقافي.. يبدو ان ثمّة اتفاق ضمني بين النقاد على عدم الوصول إلى تعريف كامل لماهية الثقافة، وفي رأينا ان الثقافة كمفهوم هي، معرفة (شيء من كلّ شيء) بكل ما يتعلق بالوعي الشامل وفي حدود المعرفة المركزة، ويتعلّق هذا التوصيف بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، وتشمل هذه المناحي جميع ملاحق المعارف بمحصلاتها الواسعة والمختلفة المشارب, وبما ان شرطية نضوج الرؤية الفنية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالوعي، وبالتالي فهي ذات علائق وثيقة بالثقافة الشاملة، والمعرفة الواسعة، واللتان تصبّان في صالح المنفعة التشاركية بين الفنان، وبين أدواته الفنية التجريبية الناشطة التي تشتمل على الثقافة والوعي، والفنان (قصي البصري) كان انموذجا لهذه الثقافة الواسعة، التي استطاع من حلالها ان يكون رائد فن الاستعراض في المسرح العراقي والعربي، وحينما نقف على مسيرته الحافلة بالمنجز الفني، نكتشف بأنه حصيلة مكثفة من النشاط الدائم، الذي توافرت فيه المعايير التي أدت الى نبوغ شخصيته الفنية التي ساعدته كثيرا في بلورة حالة النضوج في أعماله الاستعراضية العديدة، والتي جاءت متوائمة مع نضوج تجربته الرائدة في مجال فن (الاوبريت) الذي تفرّد في إخراجه وعرضه في البصرة ، ومن على مسارح العاصمة بغداد، وعلى مسارح العالم.
اهتم الفنان (قصي البصري) اهتماما بالغ الأهمية، من خلال تناوله للأعمال الاستعراضية ذات المساس بفلسفة الواقع والمجتمع، التي من شأنها المحافظة على القيم الأخلاقية، وخلق التوازن النبيل بين الآداب العامة، والسلوك الإنساني، بشرطية الحفاظ على التقاليد الشعبية، لكن (البصري) وبذات لحظة المراهنة على هذه الخيارات السامية، كان يبذل جهدا خارقا في إعلاء شأن الثقافة العامة، وكسر حالة ركود التفكير، وسبات الوعي، وخمول العقل الجمعي من اجل الوصول إلى حالات التحرّر من القيود التي فرضها المجتمع، والخلاص من حالات القمع الذي مارسته السلطة الشمولية، ضد الفنان والمجتمع بوصفهما الناجزين لعملية ذلك الخلاص، ومحاولة وضع الحواجز بينهما، وبين تطلعاتهما صوب ملاحق الخلاص من قيود السلطة.
لقد آمن الفنان (قصي البصري) بشكل حقيقي بأن المسرح هو النافذة التي يمكن من خلالها نفاذ أفكاره التحررية، وتمرير أجندته الفكرية التي دفع أعواما من عمره في سجون السلطات المتعاقبة، وكان لسجن (نقرة السلمان) نصيبا وافرا في تآكل سني عمره في تلك المفازات القاحلة هو ومجموعة من رفاقه، الذين قطعوا شوطا طويلا من النضال من اجل تحرير الطبقة الكادحة التي نخرها الجوع، وبقرها الفقر والضيم، حيث اعتبرها (البصري) الغذاء الروحي له، فكانت أعماله موجهة لهذه الشرائح التي سكنت ذاكرته الفنية، واستوطن دوائر رؤيته الفكرية.
ومن اجل تسليط الضوء على الكثير من محاطات الفنان (قصي البصري) الفنية الطويلة، نجد من الضروري المرور بسيرته الفنية الخالدة الموجزة، التي أثّثها عبر مراحل حياته الحافلة بالاشتغالات الدءوبة من اجل خلق حالة من السمو على خارطة الفن العراقي.
ولد الفنان (قصي محمد ناصر) عام ١٩٤٢م في مدينة البصرة محلة (الصبخة) من أب يعمل موظفا بسيطا، وأم فاضلة كانت تعمل خياطة، عمل الفنان (قصي البصري) مبكرا في المسرح وهو طفل في مسرحية (عروس في المزاد) عام ١٩٥٨م تأليف (محمد فخر الدين) إخراج أخيه الأكبر (توفيق البصري) تخرج من معهد الفنون الجميلة عام ١٩٦٥م تعيّن مشرفا فنيا في مدرسة الجمهورية النموذجية، حيث التقى بصديقه وزميله الملحن (طالب غالي) وقدم لوحات راقصة تستمد أفكارها ومحتواها وفحواها من البيئة البصرية الزاخرة بالجمال والزهو من حيث الأشكال المتعدّدة في للمدينة والعادات والتقاليد البصرية الجميلة، وفي عام ١٩٦٣م اعتقل مع مجموعة من رفاقه اليساريين لمدة سنتين في سجن نقرة السلمان وسجن بعقوبة، الذي ذاق فيه شتى انواع التعذيب، وتعرض لأقسى حالات القهر والظلم والبطش، وبعد ان أطلق سراحه من السجن، عاد إلى وظيفته كمشرف فني في النشاط المدرسي في البصرة، ليلتقي حينها مع زملائه في بيت الشاعر (محمد سعيد الصكار) في منطقة (البريهه) وقد اقترح الصكار فكرة عمل أوبريت (بيادر خير) وموضوعها يتمحور على فكرة هجرة الفلاحين في نهاية الستينات من الريف إلى المدينة، ليكون هذا العمل الفاتن باكورة أعماله الإخراجية في فن الاستعراض (الاوبريت) فقد لاقى نجاحا شعبيا كبيرا.
انتقل (البصري) بعدها إلى العاصمة بغداد وأسس شركة الشمس للإنتاج التلفزيوني والإذاعي، وكان المخرج التلفزيوني (صلاح كرم) مديرا مفوضا لها، ثم عمل في الدراما التلفزيونية كممثل في أكثر من خمسين مسلسلا دراميا، من بينها مسلسل (ذئاب الليل) و(رجل فوق الشبهات) و(سارة خاتون) و(أقوى من الحب) والعديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية الاخرى، كما واخرج العديد من الأعمال المسرحية من بينها مسرحية (المؤسسة الوطنية للجنون) و(نفوس) و(موكب بلا صياد) وعمل ممثلا في الكثير من الأعمال المسرحية منها (سيدتي الجميلة) و(الباب العالي) و(سلطنة عوافي) وقد حصل على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية، وبعد الاحتلال عام ٢٠٠٣م غادر العراق لسوء الأوضاع الأمنية، واختار الغربة بدلا من يعيش غريبا، وغير آمن في وطنه.
وأخيرا .. يبقى الفنان الكبير (قصي البصري) أيقونة مُشعّة من أيقونات تاريخ الفن في العراق، فهو العراقي الأصيل، والوطني النبيل، وصاحب الفكر النيّر، والفن الملتزم، والذي كتب اسم العراق داخل جوارحه، وحفظه في شغاف قلبه، وهو ينظر إليه من كوّات الغربة، ويعالج العودة إليه، رغم حالته الصحية السيئة، وهو في المنافي التي أبعدته عن عيون بغداد، وحرمته من النظر إلى وجه البصرة.