إن الحكمة هبة من الله ـ عز وجل ـ يؤتيها من يشاء من عباده قال تعالى:
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)
قال عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما – في معنى الحكمة: هي المعرفة بالقرآن ، فقهه ، ونسخه ومحكمه ، ومتشابهه ، وغريبه ومقدمه ، ومؤخره.
وقال قتادة ومجاهد: الحكمة هي الفقه في القرآن.
وشيخنا الإمام/ الشعراوي ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ منحه الله عز وجل خواطر إيمانية ومنن ربانية وفيض إلهي عرف من خلاله القرآن الكريم وفسره بطريقة عصرية مسموعة تناسب جميع العقول ، وتراعي الفروق الفردية بين جميع طلاب العلم ، وكل من أقبل عليه وشد الرحال إليه ، ضاربًا الأمثال التوضيحية ، التي توضح وتبين المقصود من كلام الله ـ عز وجل ـ وَفق الطاقة البشرية فأقبل الله ـ عز وجل ـ عليه بآذان الناس وقلوبهم و كتب له القبول وشرح به وله جميع الصدور ، فكان بحق وارث الأنبياء والأنبياء ـ كما نعلم ـ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورَّثوا العلم.
والسر في إقبال الناس على تلقي علم الشيخ بالقبول: هو كمال العلم وكمال العمل.
وكمال العلم يكون بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به ، وكمال العمل يكون بلزوم الخير وترك الشر ، وبذلك تمكن الشيخ ـ رحمه الله ـ من الإصابة بالقول والعمل وأنزل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره فكان بابًا عظيمًا من أبواب العلم والخير ، أصاب الله ـ عز وجل ـ به سُبل الرشاد وتحقق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الماءَ، فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادِبُ، أمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأَصابَتْ مِنْها طائِفَةً أُخْرَى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا، ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ)
فالشيخ الشعراوي أشبه بالأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فهو بحق العالم المتفقه في دين الله ـ عز وجل ـ ، العامل بعلمه ، المعلم لغيره ، المتكلم بالحكمة التي جرت بها الألسن وسارت بها الركبان وطربت لها الآذان وصارت كالأمثال شهرة وكالبدور ظهورًا ، أذكر منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ قوله: لا تعبدوا الله ليعطي ، بل اعبدوه ليرضى ، فإن رضي أدهشكم بعطائه.
وقوله: لا تقلق من تدابير البشر فأقصى ما يستطيعون فعله معك هو تنفيذ إرادة الله.
وقوله: أهل الصفاء هم أهل العطاء وعلى قدر صفائهم يأتي هذا العطاء.
إلى غير هذه الحكم التي أفاء الله ـ تعالى ـ بها على الشيخ رحمه الله رحمة واسعة.
أما إذا نظرنا إلى جانب تعاملاته الإنسانية فحدث عن ذلك ولا حرج ، فقد كان الشيخ إنسانًا بمعنى الكلمة ، يجبر خواطر الناس ويحترم مشاعرهم ويعاملهم بحياء جم وأدب رفيع.
ويحضرني هنا ما قصه علينا بنفسه حين قال: في يوم من أيام شهر رمضان المبارك أنهيت خواطري حول كتاب الله ـ عز وجل ـ وبينما أنا عائد إلى بيتي استوقفني رجل فقير فسلم عليَّ ودعاني إلى تناول طعام الفطور في بيته بطريقة أدمعت عيني قائلًا: أستحلفك بالله أن تفطر عندي اليوم.
يقول الشيخ: عقدت لساني لهفته ، فوجدت نفسي أتبعه إلى بيته حتى وصلنا فإذا هو بيت متواضع ، فلما وصلنا سمعت الرجل يقول لزوجته بصوت خافت: جهزي الفطور الشيخ سيفطر عندي اليوم فقالت له زوجته: والله ما عندنا غير فول.
يقول الشيخ: فجاء صاحب الدار فقلت له: يا أخي أنا أفطر مع أذان المغرب على الماء ومعي التمر ولا آكل إلا فول مدمس وبطاطس ، وقد اخترت البطاطس لأنها زاد الفقير وأحسبها عندهم.
فقال الرجل: أمرك.
رحم الله الشيخ لقد عاش حميدًا ومات سعيدًا