هل فعلا يمكن أن نقع في الحب من النظرة الأولى؟!
أم إنه وهم كبير نسميه الحب الأول كما قال الكاتب إحسان عبد القدوس !
أختصاصي الإنثروبولوجيا والتحليل النفسي والعلاقات الإنسانية وضعوا تفسيرات كثيرة لما نسميه الحب من المرة أو النظرة الأولى منها إسقاطات نفسية أو باراسايكولوجية وحتى هرمونات الحب وضعوا على عاتقها مسؤولية مانشعر به حين نلتقي بإنسان يدفع بالقلب لأن ينبض أسرع وللعين أن تلمع.
لكن ماأعتقده أنا هو أننا نرسم صورة ضبابية تحمل ملامح وصفات نرغب فيها بشدة ،ونظل نبحث عنها بين الوجوه كغريب لاجئ يبحث عمن يفهم لغته ويحمل رائحة ثياب أمه وتراب وطنه .
وماأن تقع العين على من تنطبق عليه هذه الصورة حتى نشعر بذلك الإنجذاب المخدر والذي نطلق عليه حبا.
لكن هل يمكن أن تنطبق تلك الصورة الضبابية التي تسكننا على شخص واحد فحسب أم على عدة أشخاص؟!
أو بتعبير آخر إن كانت هنالك عوائق تحول بيننا وبين من نعتقد بأنه يشبه مانريد ،من نعتقد بأنه الحبيب هل سنبحث عن بديل نسقط عليه تلك الصورة ونتلمس فيه حب جديد كتعويض عن صحراء الوحدة وظمأ الجسد والحواس؟!!
هذا ما يضعه لنا علي الحديثي على طاولة البحث في رواية وجه في كرة ، وكما عودنا في رواياته على طروحاته وتناوله لتقلبات النفس البشرية من وجه نظر فلسفية .
هذه الرواية أنا أعتبرها صوت المرأة الذي يصرخ بعلو ، هنا يصرخ الحديثي بصوتها بدل عن فمها الذي كمموه وصوتها الذي تحشرج في حنجرتها بقيود الأعراف والتقاليد والعرف العشائري والعيب وإن أعيتهم الحجة يصبغون القيود بطلاء القدسية فيطلقون عليه صفة الحرام والمحرم وتساندهم بهذا فتاوى بعض رجال الدين وبمرور السنوات وتقادمها تصبح الفتوى نصا إلهيا منزل من السماء يكفر ويحارب من يتجرأ على مناقشته أو الإعتراض عليه كما يقول الحديثي في روايته هذه.
يناقش لنا الحديثي هنا العرف العشائري وتحكمه بمستقبل وحياة الأفراد ، وهيمنة بعض العقول الذكورية على المشهد الإجتماعي والصراع الذي تعانيه المرأة التي ترزح تحت قيوده ، فيقول على لسان سما بطلة روايته
(مشاعركم أنتم الرجال طيور من حقها أن تحلق إينما تشاء أما مشاعرنا نحن النساء فجرذان تسكن الجحور ).
ويقول في موضع آخر عن ازدراء المجتمع للمرأة التي تطلب حقها فيصفونها بالمتمردة
(التمرد الذي تعنيه النساء هو أن يمارسن حقهن في الحياة ولكن ماذا نفعل وقد غدت حقوقنا مثلبة في عيونكم ؟!!).
الروائي علي الحديثي أسلوبه السردي يعتمد على السلاسة وبساطة المفردة مع عمق الفكرة والمعنى ،فهو لا يتحذلق في لغته ولا يعمد إلى زخرفتها ،لايطنب في الوصف فيصيبك بالملل ،لايسرد لك وصفا وجوه واجسام شخوصه بل يعرضهم لك من خلال انفعالاتهم وسلوكياتهم وصراعهم النفسي ثم يترك لك الخيال لترسم صور تلك الوجوه والهيئات حسبما شعرت به ووجدته مما رماه إليك .
يتحدث عنك علي الحديثي أيتها المراة وكيف تشعرين حين تعثرين على الرجل الذي تنطبق عليه صورة قلبك الضبابية فيقول على لسان بطلته
(الآن فقط ياباسل احسست بنفسي صورة وجدت إطارها بعدما كانت خائفة من تمزق جوانبها )
ثم يصرخ بصوت جرحك فيقول
(الفشل في الحب هو أكبر جرح يصيب المرأة)
وهكذا يقارب بنظرة فلسفية بين التمرد على التقاليد وماستؤول إليه الحال وبين خروج الكرة من إطار منضدة اللعب ،فحين تتدحرج الكرة خارج إطار طاولة اللعب لابد أن يكون هنالك خاسر وهنالك رابح ،أذن لابد أن تكون هنالك ضحية وهناك مستفيد.
فكرة رواية وجه في كرة ليست فكرة جديدة أو غير مطروقة ،لكن الجمال والإبداع هو في كيفية تناول هذه الفكرة وفرش جميع جوانبها السايكولوجية وتبعاتها.
فقد ناقش علي الحديثي في هذه الرواية إضافة إلى ماسبق من عرف عشائري وسجون وقلاع نفسية توضع حول النساء وماهية الحب الأول وهل يمكن تعويضه حدثنا أيضا عن الكتب عن ديستويفيسكي عن كتاب غوركي (ابن الله) عن العولمة ومفاهيمها عن مغالطات الفتاوى الدينية وصحتها عن بغداد وابتلاءاتها وحروبها .
ذكرتني سما بطلة رواية وجه في كرة بنفسي أيام صباي بخوفي وبالقلاع التي بنيتها حولي لأحمي نفسي من كائن يسمى رجل رغم حاجتي العاطفية الشديدة لوجوده ،عن أول يوم وخطواتي الأولى في باحة الكلية وخجلي وخوفي وتوجسي ،حتى كأنه يصف حالات ضعفي وأنا أرتمي في حجر أمي أشم فوطتها كما فعلت سما بطلة روايته وألقي برأسي على كتفها للخلاص من صراع روحي الداخلي وحزني .
أعتقد أن الحديثي في هذه الرواية وصف ما تشعر به المرأة من عاطفة وحاجة وضعف وقوة وصراع نفسي وعذابات من قيود مفروضة وخوف من الضياع مع حاجة ماسة غريزية للحب و لوجود رجل ، وصف كل ذلك ببراعة توازي أو تفوق ماقد تصف به امرأة كاتبة نفسها وبنات جنسها ومايشعرن به ويكابدنه.
ومن اللطيف جدا أنه حتى حين وصف مشهد اشتعال نار الغريزة والرغبة الفسيولوجية لدى سما التي ايقظها حبها لحبيبها وبدأت تتعرف على حاجات جسدها الملحة عمد إلى وصف رمزي يلمح ولايصرح ، يتقن حبكة المشهد دون ان يخدش حياء القارئ بترفع واضح عن الإباحية التي تغرق بها كثير من الروايات الأخرى.
من الأشياء المهمة التي ناقشتها هذه الرواية هو هل قمع البنت في البيت سيحميها من الإنزلاق في الخطيئة أم أن الخروج ومواجهة المجتمع هو خير معلم لها لتصقل شخصيتها وعفتها وتقوي حصونها الداخلية فيقول (لابد أن تعرفي إن كان عالمك هش (ويقصد هنا عالمها النفسي الداخلي ومناعتها) عليك ان تهجريه أو تعيدي بناءه من جديد فالبقاء واقفة في مكانك سيصيب روحك بالعفن ).
لنعد الآن الى الصورة الضبابية التي تقودنا إلى مايسمى بالحب الأول ،ففي حالة سما بطلة الرواية هل تلك الصورة في داخلها انطبقت على باسل فقط حبها الأول أم إنها من الممكن أن تجدها في رجال آخرين ؟!
وهل كانت تحب حبيبها حبا حقيقيا متينا فعلا يفجر بداخلها ثورة لتقف بكل قوة أمام التقاليد والأعراف مدافعة عن حبها أم كانت أنانية تعلم أنها ستنفذ أمر العشيرة عاجلا أم آجلا لكنها أرادت أن تتذوق طعم الحب الأول وحلاوة البدايات كما يقولون !
تترك حبيبها مخذولا تحت عذر (انا مرغمة)ثم تختفي وبعدها تبدأ تتحسس ظلال الصورة الضبابية التي اسقطتها على خطيبها بحكم العرف العشائري فتستحسن منه ماكانت تكره ثم تكتب على ورقة صغيرة لحبيبها(انتظرتك ولم تأت…أحبك) وتدسها وتخفيها كذكرى أليمة وهي تنعى حبها لمثواه الأخير !.
هل كانت سما أنانية ،جبانة، فتاة أرادت ان تتذوق الحب وهي تعلم أن مصيرها مكتوب !!
كل هذه الأسئلة سيجيب عنها القارئ حين يكمل الرواية وهو يراقب الصراع النفسي والتقلبات السايكولوجية وردود الأفعال لدى الشخوص .
وهذا تحديدا ما نريده ويريده القارئ من الرواية .
إضافة إلى متعة القراءة والتماهي مع الحبكة فهو يتعرف هنا على الأناني والجبان والشجاع والجاهل والمتذبذب والتائه ويخرج بمعلومات حياتية دينية سياسية ومايختلج في قلب الجنس الآخر مما قد يغيب عنه إما لصغر سنه أو لإنعدام خبرته الحياتية ، فتفهم الفتاة مايفكر به الشاب ويفهم الشاب ما تصارعه المرأة من عذابات وقيود .
فنحن حين نكتب لا نأخذ بيد القارئ ونقول له أفعل كذا ولاتفعل كذا وهذا صح وهذا خطأ .
بل ننير له السراج فنضيء له الطريق ونترك له كيفية التصرف مع الوحوش على جانبي الطريق وكيف يتصرف مع الكلاب المسعورة أو يتقي حفر عميقة وحوادث مرورية فيصل إلى وجهته بسلام.
أي عليه أن يفهم من الصراع النفسي وسلوك شخوص الرواية مايجب عليه فعله لو كان في مكانهم .
رواية وجه في كرة أشعر أنها تشبه جلسة في عيادة طبيب نفسي تشاهد فيها أنواع شتى من الناس وتستمع لضروب مختلفة من المشاعر والصراعات النفسية والإجتماعية .
طبعا الرواية تتحدث عن زمن لم يكن فيه الأنترنت قد دخل إلى العراق لذا كان البعد والإختفاء يلعب دورا في الأحداث لكن حتى لو كانت مواقع التواصل موحودة فالحظر والبلوك أيضا متوفر لمن يريد أن يختفي إلى الأبد فاختياراتنا وأرادتنا وقوتنا الداخلية ومانرغب فيه بشدة هو من يحدد مصير علاقاتنا حسبما أعتقد .
وأخيرا أقول إنها رواية لابد أن تقرأ .
وكما قال عباس محمود العقاد مقولته الشهيرة:
عندي حياة واحدة وحياة واحدة لاتكفي لاأهوى القراءة لأكتب بل لأن القراءة تعطيني أكثر من حياة في عمر واحد .