كتب عادل يحيى
في طريق حلب دمشق منتصف عام 1277 ميلادية، كانت القافلة المملوكية السلطانية تسير بصمت نحو دمشق عاصمة الشام للسلطنة المملوكية، حاملة النذير المريع: السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري يحتضر. ولكن من كان يتخيل أن سلطان البرين وخادم الحرمين الشريفين، قاهر المغول وكاسر الفرنجة، عزيز مصر والشام وجزيرة العرب والأناضول، سيفتك به مرض تافه كالإسهال؟ لم تنل منه جحافل المغول قبل وبعد عين جالوت، ولا كتائب الفرنجة بكونتاتها ومقدمي اسباريتها وداويتها، ولا حتى مؤامرات المتآمرين والمنشقين من المماليك، ونالت منه طفيليات البطن وأدواء الأمعاء!
كان اسمه على مسمى، فبيبرس تعني الفهد، وكان مثله سريعًا، قويًا، مثابرًا، صلبًا. يذكر بعض أمرائه أنه في بعض المعارك الصعبة كان يختفي فجأة، ثم يظهر عائدًا يشق الأفق كمارد أسطوري على صهوة جواده وهو يحمل خوذة أو درع أحد فرسان العدو، وربما بضعة من باب الحصن الذي يحاصرونه. كيف ومتى غافلهم واختفى ليخترق جحافل العدو ويعود سالمًا؟ لا أحد يدري. يحكي آخرون أنه كان في وقت صفائه يتسلى بالسباحة في النيل مرتديًا كامل عدته ودرعه الثقيلة الحربية، جارا وراءه طوفًا تقف عليه بضعة فرسان بكامل زيهم.
عودهم أن يكونوا مثله فهودًا سريعة خفيفة الكر والفر، يظهر جيشه أمام حصون الفرنجة بالشام، ينهى الحصار بفتح أو هدنة مشروطة لصالح الجيش المصري، يختفي ليباغت بعض المتآمرين في سوريا، يسير أسطولًا إلى قبرص، يسحق تمردًا في النوبة، يدمر خطة للمغول وينهيها بضم الأناضول، يطوف ببلدان الشام لينظم أحوالها، يزور الأراضي الحجازية المقدسة، يدير الحكم من قلعة الجبل بالقاهرة، يفاجئ العمال في منشآت على ضفاف النيل خالعًا ثيابه الملكية مشاركًا البنائين حمل التراب والحجارة فوق أكتاف حديدية لوحتها الشمس، ينظم حركة البريد بين أطراف مملكته حتى تصل الرسالة من القاهرة إلى دمشق في أيام ثلاثة لا غير. يقسم مهام الحكم إلى مؤسسات ومناصب لكل منها وظيفته وفق قانون صارم، ينظم السلطة القضائية فيجعل لكل مذهب قاضيه تيسيرًا على الناس، يعيد إحياء الأزهر كمؤسسة علمية، فالسلطان معروف بعدائه الشديد للجهل، حتى الخواطي والبغايا ينالهن نصيب من نشاطه، فيقبض عليهن ويرتب لهن الوعظ الرفيق والاستتابة ثم يجهزن ويزوجهن ليكفيهن الاضطرار لتجارة الجسد. لا أحد يعرف متى وكيف