من ذكريات طبيب:
المشهد:
قسم الأمراض الباطنية …..
مستشفى الحسين الجامعي 1979…..
لجان امتحان شفهي الأمراض الباطنية للبكالوريوس…..
(نظام الإمتحان أسئلة مسبقة وضعها رئيس القسم في أوراق أمام كل ممتحن، حتى لا يشتط أي ممتحن في أسئلته بعد أن كثرت الشكوى ضد بعض الممتحنين المتعسفين) !
نودي على اسمي، فدخلت اللجنة أمام ممتحن معروف عنه أن الرسوب هو الأساس في درجاته!
وقفت أمامه منتظرا حتى أشار لي عابسا بالجلوس علي الكرسي الوحيد أمامه بالمكتب، فجلست قائلا: السلام عليكم. فلم يرد!
ثم أشار بيده لعلبة أمامه فيها أوراق مطوية كثيرة. ففهمت أنه يريدني أن ألتقط ورقة.
أخذت الورقة وقرأتها فوجدت كلمة واحدة فقط لا غير (فقر الدم Anemia) فسألته عن أي شيء يريدني أن أذكره عن هذا المرض؟
قال متجهما بصوت فيه حسم واضح (قريت الورقه …. جاوب)!!
فرحت أتحدث عن كل ما درسته عن هذا المرض بداية من تعريفه وأنواعه وعلاماته وتشخيصه وعلاجه ونتائج علاجه وغيره من كل ما يمت بصلة لهذا المسمى، وكلما انتهيت من جزء نظرت له فربما يكون له تعقيب، إلا أن وجهه كان كالقناع الذي لا يتحرك، مكفهرا لا تهتز فيه عضلة، فكنت أكمل حديثي حتى انتهيت من إجابتي الشاملة الممتازة.
وقلت (هل لحضرتك أي سؤال فيما ذكرت من إجابة)؟
فإذا به ينحني بجسمه تجاهي للأمام ويحدق في وجهي بغيظ ! ثم فاجأني بقوله (هل لديك أقوال أخرى) ؟! أي والله هل لديك أقوال أخرى !!
صعقني السؤال، وجعلني أتسمر في جلستي، بل شعرت أنني في استجواب أمام وكيل النائب العام، مقيدا بالكلبشات بسراي النيابة، متهما في جناية قتل مع سبق الإصرار والترصد !!
ولم أجد ردا على سؤاله العجيب سوى اتباع نفس طريقته الرسمية القضائية الجنائية.
فأجبته قائلا: (لا .. ليس لدي أقوال أخرى) !!
فأشاح بوجهه عني وأشار لي بالانصراف بسبابة يده اليسرى !! فانصرفت دون سلام ولا كلام ولا أي حاجة!!
وعلمت بطرق غير قانونية أنني حصلت على درجة النجاح فقط وهي 60%، وكان هذا ظلما مبينا لطالب أجاب إجابة صحيحة كاملة غير منقوصة، وينافس بقوة على المراكز الأولى للدفعة.
وتكرر نفس المشهد تقريبا في امتحان شفهي طب الأطفال،غير أنني في هذه اللجنة تشاجرت بصوت عال مع الممتحن الظالم المتعسف، ورفضت الاستمرار في الامتحان، فتدخل رئيس القسم فورا، وفض الاشتباك، وسمع شكواي، فامتحنني بنفسه مع اثنين من الأساتذة، رغم اعتراض الممتحن واصراره على درجة صفر !!! ومنحني رئيس القسم عنوة وغصبا مجرد درجة النجاح، انقاذا للموقف الذي يمكن أن يتطور من كل أطرافه، واكفي على الخبر ماجور!. مع أنني كنت قد حصلت على الدرجة النهائية في الامتحان التحريري لطب الأطفال، وهذا نادر جدا في الامتحانات التحريرية !!
وأبعدتني هذه الدرجات المتواضعة في لجنتين ظالمتين في مادتين عن مراكز العشرة الأوائل، وتأخر ترتيبي على الدفعة البالغ عددها حوالي 300 طالب، إلى أن يكون ترتيبي 27 فقط!! بعد أن كنت على ثقة بأنني سأكون واحدا من الخمسة الأوائل، أو العشرة في أسوأ الظروف، ولكن قدر الله وما شاء فعل، وله في كل شيء حكمة.
وقد أفادني ذلك كثيرا عندما أصبحت أستاذا بكلية الطب، فقد كان يضيء في ذهني دائما، ما كان من الصغار والذكريات السيئة التي نحملها لهم، وما كان من الكبار والذكريات الرائعة التي نحملها لمقامهم، وهم الأساتذة الأجلاء الذين كانوا علماء بحق، وقدوة، ومثلا يحتذي.
وشتان بين هؤلاء وهؤلاء.
وليس لدي أقوال أخرى !!!