ترون كثيرًا من الناس الذين قنعوا بالتقليد – مع اكتسابهم لصفة الجهل واتباع الهوى في نفس الوقت – يريدون أن يَعزلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن مهمته في بيان الدين، ويسعوْن لإيقاف مهمته على تبليغ القرآن فقط، ثم هم الذين يتولوْن بيانَ القرآن وشرْحَه للمسلمين، وكأن الرسول عندهم، كان يجلس في بيته حتى تنزل عليه السورة من القرآن، أو بعض آياته فيخرج من بيته ويبلغها لبعض أصحابه، ثم يدخل بيتَه إلى حين نزول آيات أخرى عليه.
وهذه الطائفة تراهم من أجهل الناس بالقرآن وبالدين عمومًا، ثم ترى أحدَهم وكأنه حاز العلم بين جنبيه في يوم وليلة.
وقصاراه أنه استمع لبعض المضلين فأعجبَه كلامُه اتباعًا للهوى الذي بداخله، فاقتنع به، ثم أغلق سمعَه عن سماع أهل العلم الذين بذلوا حياتهم وأعمارهم في تعلم علوم الشريعة التي سخروا لها أوقاتهم وجهدهم على مدى أعمارهم.
فنقول وبالله التوفيق:
ما هي مهمة الرسول في بيان الدين؟
تجدون الإجابة مذكورة في القرآن الكريم، ومنها هذه الآيات:
-قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) آل عمران: 164.
-وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). الجمعة: 2
- وقال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). البقرة: 151
فتجد هذه الآيات تُصرح بأن مهمة الرسول أربعة أمور، وصرَّحتْ بها.
الأول: تلاوة القرآن على الناس وتعليم قراءته لأصحابه.
كما قال ابن مسعود: وَاللَّهِ لقَدْ أخَذْتُ مِن في رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِضْعًا وسَبْعِينَ سُورَةً. رواه أحمد وسنده صحيح.
الثاني: تزكية المؤمنين، أي تربيتهم على معالي الأخلاق والبعد عن مساوئها.
الثالث: تعليم الكتاب، وهو القرآن. أي شرح القرآن، لأن في القرآن آيات لا يمكن فهمُها إلا بشرح الرسول صلى الله عليه وسلم. - وذلك مثل الصلاة، والزكاة، والحج وغير ذلك كثير في القرآن الكريم. ولذلك قال الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) النور: 56.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ». رواه البخاري برقم (628)، ومسلم (674).
وقال في الحج: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا». رواه النسائي (3062). وهو حديث صحيح
الرابع: تعليم المؤمنين الحكمةَ.
فما هو تعريف الحكمة؟
الحِكْمَة هي: وضع الشيء في موضعه اللائق به والذي لا يصلح فيه غيره.
وقال ابن القيِّم: الحِكْمَة: فعلُ ما ينبغي فعلُه، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.
وعندما يقال: فلان حكيم، يعنون أنه يتصرف تصرفًا حسنًا في المواقف المختلفة، ولا يقول إلا كلامًا مشتملا على الخير.
فالحكمة: هي كل قولٍ متضمِّن للصدق والعلمِ والعدل والصوابِ، وكذلك كلُّ فعلٍ اتصف بهذه الصفات.
وكلام رسولنا وأفعالُه صلى الله عليه وسلم كلها كانت مشتملةً على ذلك كله، على الصدق والعلم والعد والصواب.
فهل رأيتم أحدًا أحكمَ وأعدلَ وأصوبَ قولا وفعلا من الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الخامس: الحكمة إذا وردت مع الكتاب فالمراد بها السنة. وهذا باتفاق المفسرين.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: (فذكَرَ اللهُ الكتابَ، وهو القُرَآن، وذكر الحِكْمَة، فسمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقُرَآن يقول: الحكمةُ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي: (وهذا يُشبه ما قال، والله أعلم؛ لأن القُرَآن ذُكر وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكرَ الله مَنَّه على خَلْقِه بتعليمهم الكتابَ والحكمة، فلم يَجُزْ – والله أعلم – أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله). كتاب الرسالة للشافعي ص (73).
سادسًا: السُّنةُ وحيٌ مُنَزَّلٌ من عند الله، وهي تُتلى أي تُذكَر.
قال الله تعالى مخاطبا رسوله: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا).
فالحكمة منزلة من الله تعالى مثل القرآن. قال الله تعالى مخاطبا للمؤمنين: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ).
وقال تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا).
وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
فالذكرُ هنا هو السنة بلا جدال، لأنك إذا تدبرتَ الآية وجدتَ أن هنا شيئين مُنَزَّلَيْن، أحدهما بيان للآخر، وهو (الذِّكْرَ) الذي يبيِّن (مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). ومن ثَمَّ فلا يجوز حملُهما على شيء واحد أبدًا. كما هو واضح من الآية.
(يُتْبَع بإذن الله تعالى)
إخواني الكرام: أكتفي بهذا القدر، ونكمل بإذن الله في اللقاء القادم.
مدرس الشريعة بكلية دار العلوم، ج القاهرة