قراءة نقدية: محمد هلال
خلاصة ما يمكننا قوله إنها القرية الصعيدية الحقيقية مفروشة على منديل الروائي عبد الحليم غزالي ..وذا لمن أراد المعرفة الحقيقية وسبر أغوار عادات وتقاليد بل محاسن ومثالب القرية الصعيدية.. دع عنك أولًا ما شاهدته في الأفلام والمسلسلات جانبًا؛ فهي تقدم ما يلمع تحت ضوء الدراما بحسابات الجذب الجماهيري والكم الإعلاني ؛ ما يضمن لك متعة المشاهدة وليس معرفة الواقع الفعلي لحياة القرية سواء في محافظات الصعيد أو الوجه البحري .
فإذا رغبت أن تشم بأنفك رائحة الطين والدم البشري المسفوك، المسفوح في القرية الصعيدية فذا سهل ميسر في صفحات رواية ” دفاتر الطين والدم” للمبدع عبد الحليم غزالي.. وسترى بعينيك حقيقة ما دار في زمن الرواية الواقع ما بين فترة الخمسينيات وحتى أواخر السبعينيات ، بمعنى أوضح فترة حكم عبد الناصر والسادات.. وهى فترة تحولات كبيرة في تاريخ مصر والمنطقة العربية .
بدأ المؤلف روايته بكلمات شاعرية البهاء كإهداء منه الى روحي والديه: “هذا بعض طيني ودمي مما تمدد في روحي ….حتى يقول : لعلكما ترضيان في سمائكما البعيدة بما صنعت أيديكما مني” .
وختمها بفقرة أكثر شاعرية وفلسفية في محاولة لتفسير الاختفاء الأسطوري للبطل” حامد أفندي” ؛ الذي كان ينشد السلام ويدعو له، ويعمل من أجله، ويحارب قدر طاقته عادة الثأر الدموي البغيض ليسلم الطين من الدم ، والدم من الطين :” هناك من جعل منه مسيحًا آخر رُفع إلى السماء ، وهناك من أمطر صوره الراحلة في الذاكرة بأنهار الدموع ، ومن زرع حقولًا من الآلام والشكايات والأحزان، وهناك من طارد غيابه باللعنات، بل ونبتت أساطير في جروح الطين ودروب التشتت، لكن الثابت أنه أصبح مثل نجم بعيد، لا يغادر براح الذكريات” . وقد أحسن المؤلف بتلك الخاتمة الملغزة ليظل باب محاولات المحبين للحياة مفتوحًا لاستقبال أبطال جدد .
الطريف أن المؤلف وهو شاعر وكاتب صحفي قبل أن يكون روائيًا، يقول: إن دفاتر الطين والدم .. روايتي الأولى . بطبيعة الحال نصدقه في ذلك ، ولكن الواضح أن الرواية ناضجة نضوج التجربة/الحياة ..يعني هي بنت سنوات وسنوات و سنوات عاشها المؤلف وعاشت فيه مذ ولادته في قرية ” نزالي الحرجات” محافظة أسيوط حتى ولادة الرواية .. ملمح آخر رغم أن الرواية هي السرد الأول إلا أنك تشعر بأن المؤلف ابن الرواية ، يجيد ” الفرشة” ــ بفتح الفاء ــ الروائية ويجيد تجهيز ملعب الشخوص تاريخيًا وجغرافيًا ، أضف إلى ذلك قد رسم ملامحهم النفسية والجسدية بشكل رائع بل بصدق شديد جعله يتحسب تجاه من يظن أن هناك من سيخمن أن فلان بن فلان هو المقصود في شخصية فلان فكتب تنويه في ختام الصفحات ينوه عن ذلك ويبرأ منه ، يقول: “أي تشابه في الرواية مع شخصيات وأحداث حقيقية هو محض مصادفة، فالرواية عمل أدبي بحت، وليست رصدًا أو استنساخًا للواقع”. ورغم صك البراءة هذا من المؤلف إلا أن الرواية التي تستفيد من التاريخ أو تناقش بعض ظواهره ، ليست ببعيدة عن الرصد الحقيقي غير المقصود رغم ما تتدثر به من تغيير اسماء الشخوص والأماكن ، لسبب بسيط وهو إن الرواية ومؤلفها جزء لا يتجزأ من هذا الواقع .
جولة بسيطة في دروب الرواية تطالعنا حقيقة تقول: في البدء كان الطين ، وتحت قدمية مولود بشع هو طمع النفس البشرية، ومن رحم الطمع الشيطاني ولد الثأر، وما بينهما محاولات حثيثة لفتح كوة للنور في جدار سميك غليظ .
يطالعنا الفصل الأول ” من رحم الرحلة” ليضع أيدينا على ملمح عام، رغم قسوته، ليس على مستوى الشخصية الصعيدية فحسب وإنما في عموم القطرالمصري ، وإن شئت الدقة في عموم عالمنا العربي ” الثالث” .. وهو التحاسد والتباغض ــ على مستوى الأفراد والدول ــ تزدهر أزهار الشر هذا، بسبب تفاوت الثروة بين أولاد العم ، كذا بين الأشقاء بعد موت الأب، بسبب ما يتركه من ثروة وطين ربما تسيل على حوافه الدماء للفوز به ، دع عنك حرمان النساء من الميراث فليس لهن حقوق أصلًا حسب العقيدة الشعبية .
تتجلى تلك الملامح أيضًا في فصل ” غضب ليلي” في الجزء الأخير من الرواية ، وكأن المؤلف يؤكد لنا مرة أخرى بأن هذا هو دستور الحياة في بلادنا من البدء وحتى الختام.
تدور رحى الأحداث الرئيسية في الرواية بين متصارعين اثنين، الأول هو الطين، الذي هو امتلاك الأرض الزراعية والعقارات فهو الذي يحدد قوة وسيطرة وهيمنة ونفوذ العائلات ، وعليه تولى المناصب الحكومية في القرية مثل العمدة وشيخ البلد . أما المتصارع الآخر ولكنه يتسرب بنعومة حتى لا يقع ضحية بين المأمول والمتاح وهو السعي نحو امتلاك الحياة بالعلم والتعلم فذا هو وسيلة التنوير المتاحة بل الوحيدة لتغيير المفاهيم السلبية الهادمة للحياة مثل ” الثأر” ..وأيضًا السبيل المشروع لتولي المناصب الحكومية النافذة.. وقد نجحت الرواية في تقديم عنصري الصراع ــ الطين والعلم ــ بنعومة بديعة خصوصًا وأن أبطاله هما الأب المتشبث بغلظة الموروث، أو على حد وصف المؤلف ” الملة الطيناوية ” ، والابن الذي يسعى نحو نشر العلم ، دون صدام لا يمكنه الصمود أمامه طويلًا.
الحاج محمود، صاحب الطين الذي يحلم بامتلاك ” طين الدنيا كلها” ..وولده ” حامد أفندي” ناظر المدرسة، الذي يعمل على نشر نور العلم ليعم السلام والمحبة بين الناس ويعيشون دون حاجة لسفك الدماء والثأر، وهذا الاختلاف الفكري قد ألقي بظلاله في فتور علاقة الأب بولده ، ما جعل الأب يتبرأ منه على الطريقة الشعبية ” لا ابني ولا أعرفه” .
ربما هذا المفهوم المثالي الحضاري الذي يدعو إليه حامد أفندي تتجلى مثاليته في روح الروائي عبدالحليم غزالي فنراه ينحاز إليه ويجعلنا نحبه ونركن إليه دون أن نخطط لذلك . ورغم أن المؤلف جعل النصر الحقيقي لدعوة حامد أفندي وذلك باعتراف الأب الحاج محمود وهو يحتضر؛ لكنه رغم ذلك أوصي أولاده بعدم نسيان ثأر شقيقهم حتى يرتاح في قبره . ومعنى ذلك أن الطريق نحو تحقيق هدف حامد أفندي مازال طويلًا ومريرًا .
تلامس حريري، ربطت به الرواية واقعين مأساويين؛ الشأن الخاص للقرية والقبيلة والشأن العام السياسي في مصر عقب نكسة الخامس من يونيو.. اقرأ معي في فصل ” غضب ليلي” : البلد ضاعت يا حامد.. مش البلد لوحدها دي الأمة كلها” .ثم يعلق الراوي السارد: مثل ما هبط أبوه الحاج محمود في القبر سقط عبد الناصر في ذاكرة الضياع .. بكى عند اعتراف الزعيم بالهزيمة، لكنه لم يغفر له ما جرى. وكما قال لصديقه خليل: أسوء حاجة هي التمثيل على أمة، عبد الناصر كان بيمثل.. وأنا كنت بأمثل وراه زي أعضاء الاتحاد الاشتراكي وقياداته “
وبنفس درجة التلامس الحريري تماهت رغبات وطموحات حامد أفندي في الإصلاح وعشق السلام بين القبائل والقري والنجوع مع التوجهات السياسية للرئيس السادات وكان يراه بطلًا نادر المثال .. يقول حامد أفندي بطل الرواية : عبد الناصر نفخ لنا بالونة كبيرة وفي الآخر فرقعت ، والسادات ساب الناس تتمهزأ عليه و تستهيفه ، والآخر بقى بطل الأبطال .
ما سبق أراه مجرد محاكمة عاجلة لعصر خدعتنا فيه الشعارات الجوفاء، واحتراق قلب قد أحب هذا البلد بصدق .. وإقرار بحق رجل تحمل سخافات الكثيرين ثم جاء بالنصر الذي رفع رؤوس الجميع .
الثأر، هذا القدر المتوارث الذي لا تدري من اخترعه وأبقاه بهذه القوة في الفناء.. فهو الحياة في بئر الرعب.. هو أن تعيش أيامك كل أيامك تحت مقصلة الفزع والارتعاب ، رهن رصاصة تعرف طريق قلبك جيدًا أو “زقلة” تهشم جمجمة رأسك.
صورت الرواية فيما صورت أحد هذه المشاهد في فصل” شهقة كبرى” فها هو الشاب ناصر الذي ملأ الدنيا رعبًا وكأنه جني أو عفريت وقد فاجأ قاتل أبيه وجعل يتلاعب به ويكسر في أعصابه بشكل جنوني يجيد احترافه، قد تكون وطأة الموت أرحم منه. وفي نهاية تلك اللحظات الجهنمية وقبل أن يفتت عظام صدره بالرصاص طلب من قاتل أبيه أن يبلغه السلام .
الغريب ان دائرة الثأر لم تمهل الشاب ناصر المتمرد كشيطان مارد ، فقد وجده الناس ليس مقتولًا فقط الزراعات ، بل تم التنكيل به حتى صار جسده أشلاء.
وفي هذا المضمار الثأري جعلت الرواية تصف أدق تفاصيله وأسبابه وأمنيات حامد أفندي حامل شعلة التنوير.. ولكن لأن الرسالة كبيرة وجليلة والمهمة ثقيلة تحتاج ألف حامد أو يزيد، وجد الرجل نفسه يختار العزلة واللجوء إلى سكنى المدينة لقضاء بقية سنوات العمر الأخيرة بعد الخروج إلى المعاش في حالة من السلام و الزهد تناسب شخصيته الوادعة.. ولكن حتى هذه الأمنيات البسيطة لا يُسمح بها لراغبيها ، ففي أحد مرات نزوله العادي إلى الشارع ، لم يرجع إلى بيته، ولم يعثر له على جثمان أو حتى خبر بسيط يقول : كان هنا . اختفاء اسطوري يليق بشخصية أشبه بأبطال الحكايات الغريبة التي تعودناها في بلادنا الغريبة .
وتدور الدائرة ونعود لانتظار مخلص قادم لا يعلم أحد متي سيجيء ليفتح كوة النور ليعيش الناس بلا رعب بلا ثأر يتربص بهم حتى في أحلامهم .
مشتركات ثقافية ..حفلت الرواية بذكر العديد من العادات والتقاليد والفلكلور والأمثال الشعبية للقرية الصعيدية ، لنجد المشهد يتكرر بنفس مفرداته في القرية بالوجه البحري .. والأمثلة على ذلك كثيرة ، منها تحاسد أولاد العم من حيث الثروة ، كذا تحاسد الاشقاء عند توزيع الميراث وطمع البعض ، وحرمان النساء .
ومن الطريف أن يوصف العيش الفينو بأنه يصلح أن يكون غموسًا.. بل اتخذه البعض غموسًا للعيش البتاو وكذا العيش الفلاحي في الدلتا . أيضًا من تلك المشتركات ” لعبة السيجة” .. وكذا نموذج المرأة القوية التي يطيعها الرجال ويطلبون مشورتها لسداد رأيها مثل الحاجة زينب في رواية عبد الحليم غزالي بالصعيد والحاجة فاطمة تعلبه في الوجه البحري .. رواية الوتد للرائع خيري شلبي . من تلك المشتركات أيضًا ما ورد في فصل بعنوان “طرد الشياطين ” عالجت الرواية ظاهرة قيام بعض الدراويش في مواسم الحصاد بجمع ما يجود به أهل القري والمزارعين البسطاء والأثرياء ؛ وهو كثير ، لأصحاب المقامات مثل الفرغل، بالوجه القبلي.. والسيد البدوي، بالوجه البحري.. بدعوى دفع الضرر عنهم وعن مزروعاتهم ومواشيهم ومباركة أولادهم .. والحق يقال بأن أهل الثراء والوجاهة والفهم يعتقدون في ذلك الدجل ربما أكثر من البسطاء جدًا.. ربما يتجلى الضعف البشري أمام حجب الغيب الذي لا يخضع تفسيره لمنطق أو تدبر .