يخطئ الإسرائيليون إذا تصوروا أن اغتيال البطل إسماعيل هنية، أو غيره من قادة المقاومة، سوف ينهي الصراع ويغلق ملف القضية الفلسطينية، وكذلك يخطئ المتخاذلون والشامتون إذا تصوروا أن اغتيال هنية وآلاف غيره يعني أنهم على صواب في موقفهم المناوئ للمقاومة، والداعي إلى رفع راية التسليم والاستسلام للأمر الواقع، وسوف تثبت لهم الأيام ـ كما أثبتت من قبل ـ أننا أمة ولود، إذا استشهد منها سيد قام سيد، قؤول لما قال الكرام فعول.
الشهادة في الإسلام قوة دفع وميلاد جديد، الشهادة حياة وحضور دائم، وارتقاء واصطفاء، ودليل على أن للوجود الإنساني معنى، الشهادة شهادة للتاريخ بأن في هذه الأمة أحرارا يرفضون الذل والمهانة، ويقاومون الظلم والطغيان، حتى لو اجتمعت عليهم أعتى القوى، الشهادة رفعة للقيمة الإنسانية، ليرتقي صاحبها إلى مرتبة النبيين والصديقين والصالحين، وهي مكانة عظيمة تليق بالأسد الهصور إسماعيل هنية.
هذا البطل الشهيد ـ رحمه الله ـ وهب حياته الزكية لأعظم وأشرف مهمة، وفقد الكثير من أبنائه وأحفاده الذين استشهدوا في غزة، ثم لحق بهم وهو في قلب المعركة، يحارب ويفاوض، وتلك ميتة العظماء، نالها الرجل كما نالها من سبقوه، وسينالها من يأتي بعده من أبطال، يعرف كل منهم أنه شهيد يمشي على الأرض.
لقد سبق أن اغتالت إسرائيل مئات القادة الفلسطينيين في أماكن متعددة، وكانت الخسارة فيهم فادحة، لكن راية المقاومة ظلت مرفوعة، تنتقل من يد إلى يد، ومن جيل إلى جيل، إلى أن يأتي من يصل بها إلى الهدف.
والمقاومة ليست مشروع رجل، بل مشروع أمة، وكم من رجال تتابعوا على حمل أمانة القيادة فيها حتى سلموها إلى من جاء بعدهم، فالمعركة طويلة، وطابور الشهداء يتزاحم فيه أولو العزم من المؤمنين بقضية شعبهم ووطنهم، يموت الشهيد ليعيش الوطن، وتظل القضية حية، ولا يقتل شهيد إلا وتشتد المعركة أكثر وأكثر.
قبل عقدين من الزمان كان الفلسطيني يقاوم بالحجارة، لم يكن يمتلك غير إرادته الصلبة، وإيمانه بعدالة قضيته، واليوم صارت الحجارة صاروخا وطلقة مدفعية وعبوة ناسفة، تصنع في الأنفاق بعقول مبدعة وخامات محلية، بما يضمن استمرار المقاومة، ورغم الحصار الصارم واغتيال القادة وقتل المدنيين وهدم البيوت وتخريب أسباب الحياة، مازالت إرادة المقاومة مشتعلة ومتجددة.
إن اغتيال إسماعيل هنية ليس مؤشرا على تفوق إسرائيل وبراعتها العسكرية، لكنه مؤشر على فشلها فى غزة، وهذا الفشل هو ما دفعها إلى أن تمد ذراعها بعيدا عن فلسطين بحثا عن نصر مزيف في طهران، ليس له أية نتائج استراتيجية تغير من توازن المعادلة، لقد قتلت آلاف المدنيين فلم تنحن المقاومة، وحين أيقنت بعجزها عن الوصول إلى أسراها لدى المقاومة والقضاء على المقاتلين في أرض المعركة، وهم أقرب إليها، لاحقت الأبعدين وقتلت الرجل الذي يفاوضها.
لقد أراد نتنياهو باغتيال هنية أن يخلط الأوراق ويحدث حالة من الإرباك قي الشرق الأوسط، ليبرر أمام الرأي العام الإسرائيلي والأمريكي انسحابه من صفقة تبادل الأسرى ووقف الحرب، ويحقق مصالحه الحزبية ومصالح اليمين المتطرف، ويجر إيران إلى حلبة الصراع بلعبة الفعل ورد الفعل، ومن ثم تأتي الولايات المتحدة لإنقاذ إسرائيل، وتتحول المنطقة إلى ساحة حرب عالمية، وتتوه القضية الأساسية بين الأقدام.
وفي انتظار الرد الإيراني تعيش إسرائيل حالة من الذعر، وربما يكون الهدف من تأخير الرد مقصودا لمزيد من التنسيق بين الجبهات الأربع؛ إيران ولبنان والعراق واليمن، وربما يكون مقصودا لتمديد القلق السائد في إسرائيل، الذي سبب لها خسائر مهمة نتيجة لتوقف حركة الحياة، وإجبار السكان على تخزين احتياجاتهم والتزام منازلهم، وإلغاء رحلات الطيران، وغلق عشرات الشركات، وتدهور سعر العملة.
ولم يخجل نتنياهو أن يطلب علنا من أمريكا وبريطانيا تشكيل تحالف دولي للدفاع عن إسرائيل، فهي تابع استراتيجي، لاتستطيع وحدها الوقوف في مواجهة تهديدات المحور الإيراني، لكنها تضرب وتعتدي ثم تهرب إلى أحضان الكفيل، ويبدو أن الكفيل غير راض هذه المرة وغير مقتنع، والتوقيت لا يناسبه.
يؤكد ذلك ماذكره موقع (أكسيوس) الأمريكي عن اتصال ساخن بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونتنياهو الخميس الماضي، وتأكيد بايدن على عدم رضاه عن النهج الذي اتبعه نتنياهو، ومطالبته بالتوقف عن تصعيد التوترات في المنطقة، والتحرك فورا لإنجاز اتفاق الرهائن ووقف الحرب، ونقل (أكسيوس) عن مصادره أن صوت بايدن احتد وهو يقول لنتنياهو: “أريد التوصل إلى اتفاق في غضون أسبوع إلى أسبوعين، اتفاق الرهائن ووقف إطلاق النار هو أهم شيء حاليا”.
وفي السياق ذاته نشرت صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية مقالا للكاتب رافيت هيشت الأحد الماضي قال فيه إن “اغتيال هنية كان مقصودا في توقيته ومكانه، باعتباره محاولة لتأخير صفقة الرهائن وإيقاف الحرب، وفوق ذلك محاولة لإدخال الولايات المتحدة في الصراع، في إطار دولي من صراع الحضارات، وقد تسبب الحادث في حالة من التأهب الدفاعي العصبي في دولتنا بأكملها، وزاد من خطر اندلاع حرب إقليمية، ومن الممكن أن يساهم في إضعاف معنويات حماس، لكن الذي تعلمناه على مدى سنوات من تجربة اغتيال العديد من الشخصيات الذين ينتمون إلى منظمات معينة أنه ليس له أي تأثير على الأوضاع”.