يُعد المجتمع الموجه الرئيس لعمليات تشكيل السلوك في ضوء ما يتبنى من مبادئ وقواعد تنسدل مباشرة من نسقه القيمي الذي تبناه وعليه قامت حضارته وتأصلت جذوره وتحصنت لحمته وقوى نسيجه؛ ليصبح منتجًا قادرًا على المضي قدمًا نحو مسار النهضة في صورتها المستدامة بشتى المجالات، وعلى هذا يقاس تقدم الأمم ورقيها وصمودها في ضوء التغيرات الجارفة بتنوعاتها المختلفة بمقدار تمسكها بقيمها النبيلة.
ودعونا نؤكد ماهية القيمة في الوجدان؛ فهي تشير إلى معيار ومبدأ يقبله المجتمع ويقره ويتمسك به، ومن ثم يسعى من خلال مؤسساته الرسمية وغير الرسمية إلى تشكيل المعتقد الراسخ لهذه القيمة؛ لتصبح إحدى لبنات التفكير ومكون رئيس للقناعة الذاتية، وفي ضوء ذلك تعد موجهة للسلوك في إطاره الحسن؛ ليتناغم مع أهداف المجتمع الكبرى عبر ممارسات وأقول تصدر من شخص يعي ما عليه من واجبات فيؤديها، ويدرك ما له من حقوق؛ فيطالب بها بالطرائق المشروعة.
وفي هذا السياق يتأكد في أذهاننا أمر مهم، وهو أن الإنسان منا إذا ما عزز لديه النسق القيمي، وترسخت القناعات لديه نحوه؛ فإن سعيه الحثيث تجاه اكتساب الخبرات النافعة في مجال أو عدة مجالات سيكون مستدام؛ فلا يتوقف عن العمل المتقن والجاد، ولا يسمح بالتهاون في حقوق العباد والوطن، ولا يضع للمصالح الخاصة قوس منزع؛ لشعوره بتحمل المسئولية؛ فهويته القومية تدعمها وتعضدها منظومة النسق القيمي دون مواربة؛ لذا أضحى اعتزازه ومحبته وولاؤه وانتماؤه لوطنه العامل المشترك الأعظم مع المخلصين من أمثاله ببلادنا الحبيبة التي تذخر بثروات بشرية معطاءة.
إن العقول المنتجة تدرك دورها الإيجابي في كافة أبعاد الحياة الاجتماعية والسياسية والقانونية والثقافية والاقتصادية والبيئية والعسكرية والصحية والتعليمية؛ فالنضج يعني أن نتفاعل بصورة مستدامة مع الأحداث الجارية والمحيطة بمجتمعاتنا، ويحث العمليات الداخلية للفرد سواء أكانت نفسية أم ذهنية بأن تتآزر مع السلوك القويم والذي بمقتضاه نرصد روح التعاون والتشارك والتكافل والتراحم والمحبة بين أطياف المجتمع؛ فلا تفرقه شائعة، ولا تنال منه غايات مغرضة، ولا يزحزحه عن مسار نهضته تحد أو أزمة أو نازلة.
ولندرك أن استراتيجية المغرض الذي يود الفتك بنسيج المجتمع المصري وتفتيت لحمته على المدى البعيد تقوم على محاولات ممنهجة تعمل بقوة على إضعاف النسق القيمي، واستبداله بقيم مستوردة لا تتفق مع صحيح المعتقد ولا تتناغم مع مقاصد الشريعة ولا تتسق مع ما يرتضيه المجتمع الأصيل، وهذا يجعلنا نستفيق وندرك أهمية تعزيز النسق القيمي في النفوس وضرورة غرس الخبرات التي تعضده في ممارسات شبابنا وأبنائنا بمختلف الأعمار؛ فمما لا شك فيه أن قيمتنا المتجذرة في جنبات النفوس والتي نسميها بالقيم النبيلة لا غنى عنها؛ فما احوجنا للصدق، والمحبة، والنزاهة، والشفافية، والأمانة، والشرف، والعزة، والمسؤولية الاجتماعية، والتكافل، والمساواة والعدالة، وحفظ الكرامة، والحرية المسئولة التي تحترم مشاعر الأخرين، واحترام المعتقدات، والتسامح وقبول الآخر، واحترام التنوع الثقافي، وتقدير العلم والعلماء، واحترام رموز الدولة، والاعتزاز بالحضارة.
وقناعتي أنه إذا ما تحلى الإنسان منا بموفور القيم النبيلة سالفة الذكر فإن اتقانه للعمل يُعد من لوازمه التي لا تنفك البتة عنه؛ فيبذل قصار جهده، ويتحرى الدقة في أدائه؛ لينتج نتاجًا يرتضيه، ومن ثم يكابد على أن يضيف إليه ليصبح أكثر جدوى مما نتوقعه، بل يؤدى به لسبل ومسارات الابتكار المنشود، بما يحقق الثقة بالنفس، ويعلي من الهمة والعزيمة؛ فتستثمر الطاقات بالصورة الصحيحة التي تحفظ على الإنسان النعم وتزيل عنه النقم.
إن استحسان أو استهجان المجتمع لسلوكيات يرصدها عبر المنابر الافتراضية دلالتها واضحة؛ حيث يأبى أو يرفض أو لا يتقبل كل ما من شأنها مخالفًا لنسقه القيمي النبيل؛ فالضوابط الأخلاقية لها مكانة محفوظة، والآداب العامة لها منزلة مصونة، وهذا ما يسمى بالنضج الخلقي المستمد من مقومات عقدية ودستورية وتربوية وعادات مجتمعية تشكل الرأي العام الجامع، والذي لا جدال حوله.
نريد جيلًا يحمل الراية ويصون الأمانة ويستكمل المسيرة ويؤدي بإخلاص، ويقتدى بالأبطال الشجعان، ولا يقبل الضيم، ولا ينهزم من متقلبات الدهر، ولا يرهب العدو ويخشاه؛ فلا يغوص في غياهب الفساد، ولا يترنح وراء بائعي الهوى والزيف؛ فيحافظ على أمن وأمان وطنه ويصون أبعاد أمنه القومي.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر