فلقد قامت الحركة الصهيونية وفقا لما ورد في كتاب مؤسسها تيودور هرتزل (دولة اليهود) على ثلاثة مبادئ، أولها توحيد القبائل اليهودية في شعب واحد وثانيها عدم السماح باستيعاب اليهود في أي شعب آخر، ولتحقيق هذه الأهداف إيجاد وطن يقيم فيه كل اليهود. ولقد أضافت الحركة الصهيونية هدفا رابعا لهذه الأهداف في مؤتمر الصهيونية الأول بمدينة بازل السويسرية وهو حق اليهود في الإقامة بفلسطين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن عبارة وطن قومي لليهود لا تعني وفقا للوثائق الدولية قيام دولة ولا تعني انتزاع أرض بالقوة أو إزاحة شعب عن موطنه، وإنما تعني إقامتهم في دولة واحدة تتوفر لهم فيها الحماية ويتمكنون فيها من تحقيق ذاتيتهم الثقافية. وهذا ما نص عليه وعد بلفور في عام 1917 وما ورد في وثيقة الانتداب البريطاني على فلسطين وما ورد في قرار عصبة الأمم في يوليو/تموز 1922 والذي هو بمثابة التشريع الدولي الملزم وما سارت عليه قرارات الأمم المتحدة لاحقا وما سعى به حاييم وايزمان خليفة هرتزل في المنطقة العربية قبل وبعد وعد بلفور لطمأنة القادة العرب.
بصفتها هيئات رسمية، تعمل المؤسسات الإسرائيلية.. السياسية والإدارية على تصميم وتشريع الميزانيات والقوانين والأنظمة والسياسات التي تهدف إلى الهيمنة على السكان الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية. لكن، لكي تتحقق هذه الهيمنة والاضطهاد الناتج عنها في الواقع، يجب على المواطنين تجسيد ممارساتِ قمعية. بالرغم من أعمال العنف التي يرتكبها الجنود والمستوطنون المتطرفون بشكل دائمٍ في الضفة الغربية، أو القصف الدوري على قطاع غزة،
إلا أنني في الواقع لا أشير فقط إلى هذه الأفعال الواضحة. فالجوانب الأقل ظهورًا للحكم العسكري الفج في الضفة الغربية، وكذلك لإدارة الحصار على غزة، تُدارُ من قبل إداريين مدنيين، ومتعهدين، وعمال عاديين، وهم مواطنون إسرائيليون يعملون لصالح الاحتلال العسكري ويتربحون منه بشكل مباشر. إن عقودًا طويلة من التمييز والتهميش للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل (يشكلون قرابة 21% من سكانها)، يتطلب أفعالًا بيروقراطية يومية ثابتة، ليست واعية بالضرورة، على كل المستويات، يُناط بها تطبيق مجموعة مختلفة من القواعد لليهود والفلسطينيين
فيما يتعلق بميزانيات البلديات والمنح المالية، وتمويل التعليم، وتوفير الأراضي المخصصة للتنمية، وطرق المواصلات العامة، وحقوق الرهن العقاري والأسعار التي تقدمها البنوك، وغيرها. يتبع مسؤولو التوظيف في القطاع العام، وفي الأعمال والصناعات الخاصة، تقليدًا عمره قرن من الزمانِ يتمثل في تفضيل الموظف اليهودي على الفلسطيني. وفيما يواصل المدرّسون الإسرائيليّون إنتاج وتكرار رواية أحادية الجانب للأحداث، يمتنع الآباء عن مقاطعة هذه الدائرة التعليميّة المغلقة.
ويشارك الصحفيون في وسائل الإعلام الإسرائيلية الرئيسية بنشاطٍ في التحريض ضد الفلسطينيين، كجزءٍ من ثقافة سياسية أوسع تلقي باللوم على الفلسطينيين. وكذلك فإن الاستمتاع بملكية فلسطينية مُصادَرة يعد شكلًا آخر من أشكال الهيمنة والامتياز، كونه يُجسد الحقوق التي يُحظر على الفلسطينيين التمتع بها في حياتهم اليومية، مثل القدرة على السكن وامتلاك الأرض، والرعاية الاجتماعية، والسياسة، والتعليم، والقائمة تطول وتطول. إن العلاقة بين الدولة وأقلياتها، والتي كانت قائمة في تلك الفترة على مبدأ المواطنة، عززت من مفاهيم عدة، مثل حرية التعبير، والاستقلال الوطني والديمقراطية النيابية، إلى جانب الحق في إصدار الصحف الخاصة، كجزء من منظومة حرية التعبير التي كفلها دستور 1923. في الوقت ذاته تحاول الدراسة رصد العلاقة بين مفهوم المواطنة الذي تم إصداره في قانون 1923، ومحاولات تطبيق هذا المفهوم في الواقع واصطدامه بالعديد من العراقيل، خاصةً على مستوى التقاضي، وكيف أن محاولات الإصلاح التي خاضتها الدولة لتوحيد القضاء لم تكلل بالنجاح، لكنها تبقى –على المستوي التاريخي–هي التجربة الوحيدة والمهمة في تاريخ مصر الحديث لبناء أسس نظام علماني يقوم علي الفصل بين الدين والدولة وتأسيس منظومة من القيم مرجعيتها الأساسية حقوق الإنسان (حتي قبل ظهور المواثيق الأممية المتعلقة بحقوق الإنسان)،
كما أنه يعكس لديناميكية العلاقة بين الدولة وأقلياتها. من هنا كان اختيار تلك المرحلة التاريخية لما كانت تتمتع به مصر حينها بتعدد عرقي وديني ولغوي، وصل ذروته مع وجود أكثر من تسعين أقلية في مصر في الفترة بين الحربين العالميتين، ما جعل المستشرقين يصفونها بأنها مركز الأقليات في الشرق الأوسط. كما أن ذروة هذا التعدد تمثلت في وجود الطائفة اليهودية التي كانت تتحدث لغات عدة طبقًا للبلدان التي تنحدر منها أصولها أو التي هاجرت منها
ارتباط اليهود المصريين بما يسمي بالتنوير الأوروبي والذي تطور داخله التنوير اليهودي أو ما يطلق عليه الهاسكالا، ساهم في احتكاك اليهود المصريين بالحضارة الأوروبية وانفتاحهم عليها بصورة أوسع؛ لذا ساهموا بقوة كبيرة في حركة تحديث الاقتصاد المصري.
وبإمكان هذه المساهمة –تحت الاحتلال الإنجليزي– إعطائنا لمحة عن المجموعات المسيطرة حينها على الاقتصاد في مصر، وهم الطبقة السياسية والعسكرية البريطانية في مصر، طبقة سكان الحضر، والطبقة الأوليغارشية.
أما المجموعة الرابعة فقد كانت تمثلها الطبقات المالكة والمهنية (البيروقراطيون والمعلمون). ولقد أوجدت تلك الطبقة الرابعة لنفسها مكانًا داخل الأحزاب السياسية الوطنية (حزب الوفد بشكل أساسي)، الذي كان يمثل الاتجاه الوطني الليبرالي، وكان الوفد حينها هو الحزب الجامع لمكونات المجتمع المصري المختلفة، ومن ضمنها بالطبع الأقليات. فقد تمكن كل من الأقباط واليهود في مصر من الانضمام إلى حزب الوفد المصري والوصول إلى مراكز قيادية داخل الحزب؛ فعلى سبيل المثال، تم انتخاب مرقص حنا (المفكر القبطي) أمينًا للوفد في نوفمبر 1919، فضلًا عن العديد من الأعضاء الأقباط. وبالنظر إلى دور الأقليات، خاصةً رجال الأعمال اليهود، في عملية تحديث الاقتصاد المصري يعيدنا هذا إلي النقاش حول دور الأجانب في عملية إنهاء الاستعمار، وإلى النقاش حول دور الشركات الأجنبية في عملية إنهاء الاستعمار بشكل عام.
إن دراسة اليهود كأقلية مهاجرة (خاصةً من أتوا إلى مصر من بلدان مختلفة)، سيساعدنا على فهم التعددية في الانتماء السياسي داخل المجتمعات اليهودية، وأقصد هنا الدمج بين قضايا الأوطان التي يعيشون فيها، وبين القضايا الخاصة لليهود كأقلية لها خطابها القومي الذي كانت تسعي حينها لتأسيسه والدفاع عنه. إلى جانب فهم التكوين الهرمي لهذه المجموعة والذي يتشابه كثيرًا مع المجموعات نفسها في بلدان أخري. ومن ملامح هذا التكوين أنه كان هناك طبقة عليا لليهود المصريين (طبقة برجوازية) استثمروا في قطاعات مختلفة وكانت تربطهم علاقات قوية بالدائرة الملكية حينها. فمثلا رئيس مجلس الجالية اليهودية السفارديم يوسف أصلان قطاوي باشا، تم اختياره في الفترة من 1924-1925 ليصبح وزيرًا مرتين، بينما كان مراد فرج فرج، رئيس المجلس الملي لليهود القرائين، محامي الخاصة الخديوية ومنحه الخديوي عباس حلمي الثاني رتبة البكوية لكفاءته
في الفترة التي اشتدت فيها مقاومة الاحتلال الإنجليزي في مصر ومع قيام ثورة 1919 نشأ خطاب يقوم على أساس حقوق المواطنة والحريات، هذا الخطاب بالطبع متأثر في تركيبته بالتنوير الأوروبي. وحاولت كل مجموعة سياسية في ذلك الوقت استلهام رؤيتها في إطار من هذا الخطاب التنويري الليبرالي، حينها كان حزب الوفد هو الممثل لهذا الاتجاه، لذا انتسب العديد من الأقليات لحزب الوفد، مؤمنين بالمبادئ الليبرالية التي يطرحها الحزب، دفاعًا عن دولة الحريات والمواطنة.
ففي فترة ما بين الحربين العالميتين كانت المقاومة السياسية المصرية للحكم الاستعماري البريطاني علي أشدها؛ وفي الوقت نفسه دعم وجود الاحتلال البريطاني النقاش حول عدد من القضايا الاجتماعية والسياسية في مصر، لا سيما مسألة ما إذا كان يجب اعتبار مصر فرعونية، أم دولة إسلامية عربية، أم أنه تم تشكيلها طبقا للقيم العلمانية للاحتلال الإنجليزي خاصةً فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والسياسية.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا