أشتهر الشاعر الكبير أحمد رامي أنه شاعر باللغة العامية، ومتفرغ لكتابة الأغاني لأم كلثوم، حتى اتهمه بعض الحساد من ڨ والأدباء أنه لا يكتب بالعامية إلا لعجزه عن كتابة الشعر العربي الرصين المنظوم على بحور الفراهيدي، وهو ما يسمونه الشعر العمودي.
صبر أحمد رامي على تلك الدعاوي الكيدية حتى لا يشغله شاغل عن الكتابة لأم كلثوم مع أنه كتب على مدى السنين الكثير من الشعر،
إلا أن نبرة الحساد علت وكان لابد له أن يرد ردا حاسما ساحقا ماحقا مزلزلا. فما كان منه إلا أن (خبط) قصيدة ذكريات في عام 1955، تحفة من تحف الشعر العربي، على وزن “بحر الرمل” الوجداني، وفيها ما فيها من معان مسحورة، ممهورة بالخيال في أسمى صوره ، ومرصعة بكل أنواع البديع، بمطلع هائل خيالي كسحب السماء التي تهطل منها أبيات قصيدة عذبة مبدعة متفردة، تروي الوجدان بالشجو والشجن، فيزهر بالمشاعر باختلاف ألوانها ورحيقها.
يقول المطلع:
ذِكرَياتٌ عَبَرَتْ أُفقَ خيالي = بارِقًا يلمَعُ في جُنحِ اللَّيالي
يا سلام يارامي … يا سلام …
وما أن انتهى الصائغ أحمد رامي من القصيدة حتى سلمها لأم كلثوم التي سلمتها لعبقري الموسيقى والألحان رياض السنباطي، ليجعل القصيدة تختال بسحرها على بساط من مقام النهاوند الرقيق الشجي، لتولد أغنية ذكريات، التي ما أن غنتها أم كلثوم بصوتها وأدائها الكلثومي حتى اكتملت ثلاثية الإبداع الهائل، رامي والسنباطي وأم كلثوم، وتعزف ذلك الفرقة الموسيقية الكلثومية بعازفيها من طراز العجب العجاب.
غنت أم كلثوم الأغنية ما بين عام 1955 وعام 1961 في 19 حفلة !!
وقد جمعت ملفات صوتية على مدى السنوات تضم أكثر من ألف أغنية مبوبة تبويبا دقيقا لكافة المطربين والمطربات الذين صدحوا بالغناء في القرن العشرين، وكل ما أبدعه الكتاب والملحنون في ذلك الزمن الفائت الثري بكل ما له قيمة في جميع مناحي الحياة.
وملف كل أغنية فيه حكاية الأغنية كاملة، ظروف كتابتها ومناسبتها وتفاصل لحنها بمقاماته، وسنة الغناء، فلست أستمع أو أقرأ إلا ما أعرف عنه كل شيء، فيكتمل الاستماع بالإستمتاع بالفهم والتحليل.
وقد تعودت أن أزور تلك الملفات بين الحين والحين، وأتخير منها ما أسمع، وربما تكون أغنية لمطرب أو مطربة لم أسمعها لأعوام، ولكني بالقطع أعود لها زائرا وضيفا. غير أن هناك ملفات بعينها لا يمر شهر إلا وأعود لها مستمتعا بإبداع المبدعين المصريين التي لا يمسها الملل أبدا، وفي مقدمة تلك الملفات، ملف أغنية قصيدة ذكريات الزاخر بالبديع والإبداع والحضارة الموسيقية المصرية والشرقية …