تزعم الولايات المتحدة أنها جادة في دعم المفاوضات بين حماس وإسرائيل لوقف الحرب في غزة، ويأتي وفدها ويغادر مرات ومرات، لكنها في الوقت ذاته ترسل شحنة أسلحة حديثة إلى إسرائيل بقيمة 20 مليار دولار، كي تشجعها على المزيد من القتل والتدمير والعربدة، ونحن مع الزمن اعتدنا على هذه الازدواجية، يعطوننا من طرف اللسان حلاوة، ويعدوننا بالمساعي الحميدة، ويمطروننا بالتصريحات الوردية، لكنهم من جانب آخر يمنحون إسرائيل المال والسلاح والحماية، ثم سرعان ما تتبخر الوعود والتصريحات، بينما يظل السلاح يخوض في دماء الأبرياء، وهم يلوذون بالصمت المريب، الذي يعني الموافقة والرضا.
وطبقا للأرقام المعلنة، فقد أرسلت الولايات المتحدة أسلحة وذخائر إلى إسرائيل بأكثر من 45 مليار دولار منذ بداية الحرب في غزة، الأمر الذي سوغ لطائرات الاحتلال أن تلقي أكثر من 80 ألف طن من المتفجرات على القطاع، مايعادل أربع قنابل نووية من النوع ألقي على مدينتي نجازاكي وهيروشيما اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن إرسال البوارج والأساطيل وحاملات الطائرات ثلاث مرات لحماية إسرائيل خلال أشهر الحرب العشرة، وهو ما يؤكد أن أمريكا وإسرائيل يتعاملان بيدين: يد تفاوض، ويد تذبح، وأن إسرائيل لم تكن لتستمر في الحرب لولا الدعم الأمريكي، وغير الأمريكي.
ولم يتوقف الأمر على السلاح، فقد هرع الرئيس الأمريكي جو بايدن بنفسه إلى إسرائيل بعد ساعات من بدء طوفان الأقصى، وكذلك فعل وزير خارجيته ووزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس المخابرات ورؤساء أفرع الجيش، وتبعهم زعماء ووزراء الدول الغربية الحليفة، وحرص هؤلاء جميعا على تأكيد التزامهم بحماية إسرائيل، والاتفاق معها في أهدافها، خاصة فيما يتعلق بتفوقها العسكري والقضاء على حماس وبقية فصائل المقاومة، واستعادة الأسرى الإسرائيليين من غزة دون الحاجة إلى التفاوض.
ولا تزال أمريكا تعلن تأييدها لحل الدولتين، وتمسكها بإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، لكنها لم تفعل شيئا لإنجاز هذا الحل، ولا تحرك ساكنا وهي ترى اعتداءات الإسرائيليين كل يوم على الفلسطينيين في الضفة، وسرقة منازلهم وتدمير زراعاتهم وتدنيس المسجد الأقصى وإنشاء مئات المستوطنات، بما يجعل الدولة الفلسطينية الموعودة غير قابلة للتحقق على الأرض، وتكتفي بإدانة سلوك المستوطنين المتوحشين دون أي إجراء تجاه الدولة التي تسمح بتوحشهم.
وبمرور الزمن وتكرار التجارب صارت الإستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية مكشوفة تماما؛ تفاوض إلى مالا نهاية، وذبح إلى مالا نهاية، ولعلنا نذكر أنه منذ اتفاقية أوسلو في سبتمبر 1993ـ التي كانت مجرد إعلان للمبادئ ـ لم تنجز المفاوضات العديدة التي أجريت بدعم أمريكي شيئا ذا بال، ولم يكن لها من نتائج غير التطبيع المجاني والتنسيق الأمني وتكريس الاحتلال، بينما يد الذبح تعمل بكل همة ونشاط.
ومع ذلك لايرضى نتنياهو اليوم عن السلوك الأمريكي، ويطلب ما هو أكثر، وفي خطابه أمام الكونجرس الشهر الماضى كان الغرور قد استبد به، ودفعه إلى أن يقول للأمريكيين إنه يحميهم، ويخوض الحرب نيابة عنهم، ومن ثم يجب على الولايات المتحدة أن تشكر له جهوده، وليس العكس، أما المساعدات التي تقدمها لإسرائيل فهي “تخدم مصلحة أمريكية وجودية، وكلما زادت هذه المساعدات كان ذلك أفضل لأمريكا على المستوى الإستراتيجي”.
وبينما تجري المفاوضات حاليا في القاهرة والدوحة لا تتوقف إسرائيل عن القتل والتدمير، حتى وصل عدد الشهداء في غزة إلى 40 الف شهيد و90 ألف جريح، بل يعمد نتنياهو إلى توسيع نطاق الحرب، وهو ما أشار إليه (روغيل الفر) في مقال بصحيفة (ها آرتس) الإسرائيلية يوم الثلاثاء الماضي بعنوان (نتنياهو يريد حربا عالمية)، أكد فيه أن نتنياهو يعمل جاهدا لمنع وقف الحرب في غزة، سعيا إلى إشعال حرب عالمية، وأنه صار يشكل تهديدا للأمن العالمي، ويعتقد في نفسه أنه زعيم ولاعب مهم في العالم الحر، وأن الولايات المتحدة ليست سوى وكيل له، وليس العكس، وأنه الأكثر إدراكا لما فيه مصلحة أمريكا، ويخدم هذه المصلحة بشكل أفضل من الرئيس بايدن، وبما أن إيران عنده هي الخطر الأكبر، فإن على الولايات المتحدة أن تبادر بقصف المنشآت النووية الإيرانية، وكانت خطته ترمي إلى أن يكون اغتيال إسماعيل هنية في طهران نقطة البداية إلى حرب عالمية تستمر لسنوات، وتتركه في السلطة حتى تنتهي”.
ونشرت صحيفة (الجارديان) البريطانية تقريرا بعنوان (هل تقع إيران في فخاخ إسرائيل؟) قالت فيه: “إن منطقة الشرق الأوسط أصبحت على شفا حرب كبرى، وفي نظر المحللين الإيرانيين فإن استفزازات إسرائيل المتوالية بمثابة فخاخ نصبها نتنياهو لجر إيران إلى حرب أوسع نطاقا، خاصة مع تصاعد الضغوط من أجل وقف إطلاق النار في غزة، لقد بالغ نتنياهو في تضخيم التهديد الذي تشكله إيران، خاصة برنامجها النووي، لتغذية صعوده السياسي، والآن يسعى إلى الحرب مع إيران لتجنب سقوطه الشخصي، وكما يعتقد بايدن أن نتنياهو يعمل على توريط الولايات المتحدة في حرب أوسع نطاقا ضد إيران فإن القادة الإيرانيين يدركون أن نتنياهو نصب لهم فخا، وأن الحرب العالمية التي يريدها تمنحه فرصة لإعادة صياغة نفسه أمام الجمهور الإسرائيلي والمجتمع الدولي”.
ونضيف إلى ذلك أن نتنياهو إذا ما نجح في تحويل الأنظار إلى ما يسميه بالخطر الإيراني، وتوريط أمريكاة في حرب عالمية، فسوف يضمن بذلك التخلص من وطأة القضية الفلسطينية والقدس والمسجد الأقصى، وسوف تنسى هذه الملفات يقينا في زحمة الحرب العالمية وتشابك أطرافها ومفاوضاتها، ولن يتذكر أحد الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة.