“الشخص التعيس لا ينتمي إلى الحاضر أبدًا لأنه يعيش دائمًا في الماضي أو المستقبل.”
هذه العبارة المؤثرة لسورين كيركيجارد تتعمق في الطبيعة العميقة للوجود البشري، وتسلط الضوء على الصراع الجوهري الذي يواجهه العديد من الأفراد – الشد والجذب الدائم بين الماضي والمستقبل، والذي يحرمهم من ثراء اللحظة الحالية.
إن عيشك في ظلال الماضي، مسكونًا بالذكريات التي تنخر الروح، أو الشوق الدائم إلى مستقبل لم يتكشف بعد، يولد شعورًا بالانفصال عن الذات الحالية. وبالتالي فإن عدم القدرة على ترسيخ الذات في الحاضر يحرم المرء من الجمال العميق والعمق الذي تحمله كل لحظة، مما يؤدي إلى إدامة دورة مستمرة من السخط والقلق.
ولا شك أن الغياب عن الذات يعني البقاء في حالة من الاضطراب الدائم، وعدم الانخراط الكامل في الواقع الحقيقي وغير الخاضع للتصنيف للحظة الحالية. ويصبح الماضي عبئًا ثقيلًا على الروح، بينما يلوح المستقبل في الأفق كضباب غير مؤكد، يغذي القلق والسخط.
فعندما يستوطن المرء الماضي، مسكونًا بذكريات الفرص الضائعة أو الأحزان الماضية، فإنه يخاطر بالوقوع في فخ حلقة مفرغة من الندم والشوق. يمكن لثقل ما كان ذات يوم أن يطغى على احتمالات ما يمكن أن يكون، مما يجعل اللحظة الحالية مجرد شبح لما حدث بالفعل.
وعلى العكس من ذلك، عندما يركز العقل على مستقبل غير مؤكد مليء بالمخاوف والتوقعات، يفقد الحاضر بريقه وسط ظلال ما هو قادم. فالقلق بشأن ما ينتظرنا قد يحجب الجمال والإمكانات الكامنة في الحاضر، ويحرمنا من ثراء الوجود الذي يتكشف في الوقت الحقيقي.
بالنسبة لأولئك الذين يستهلكهم الندم على الماضي، يصبح كل يوم معركة ضد ظلال ما كان يمكن أن يكون. فهم يندبون حظهم على الفرص الضائعة، والأخطاء التي ارتكبوها، والمسارات التي لم يسلكوها، وكل ذلك في حين يمر بهم نسيج الحاضر النابض بالحياة دون أن يلاحظه أحد. ولا شك أن التفكير في الماضي يحرمهم من فرصة التعلم من تجاربهم والنمو إلى نسخة أفضل من أنفسهم.
من ناحية أخرى، فإن أولئك الذين يعيشون باستمرار في المستقبل مثقلون بالقلق والمخاوف مما قد يأتي بعد ذلك. يشغلهم فقط احتمالات ما سوف يحدث، وعدم اليقين، والتوقعات التي قد لا تتحقق أبدًا، ويفقدون الفرص المتاحة للسعادة والعجائب التي تحيط بهم في الحاضر. فالمستقبل دائما يظل سرابًا بعيدًا، بعيدًا عن متناول اليد دائمًا، مما يجعلهم غير راضين وقلقين على الدوام.
للتحرر من هذه الدائرة من السخط، يجب على المرء أن يتعلم ترسيخ نفسه في اللحظة الحالية. فمن خلال ممارسة اليقظة وتنمية الوعي بالحاضر، يمكنه العثور على العزاء في بساطة الوجود الذي يتكشف أمامه. ومن خلال إعادة الاتصال بأنفسهم في الحاضر يمكنهم حقًا تقدير جمال الحياة واكتشاف الصفاء الذي يأتي من كونهم حاضرين تمامًا لأنفسهم.
ولذا فإن التواجد الحقيقي مع الذات يعني تنمية شعور عميق بالوعي واليقظة، وتثبيت الذات في اللحظة الحالية دون أن تقيدها أشباح الأمس أو خيالات الغد. وفي هذه الحالة من الحضور يمكن أن تزدهر الروح بالسلام الحقيقي والرضا واكتشاف الذات، دون أن تثقلها سلاسل الندم عما كان بالماضي أو عدم اليقين لما سيأتي في المستقبل.
فاحتضانك اللحظة الحالية كهدية يجب تقديرها وتجربتها بالكامل يسمح بتحول عميق في المنظور، وفتح الأبواب للتحول الداخلي والنمو الروحي. ومن خلال الالتفات إلى ذلك وتعلم كيفية التعايش مع نعمة الحاضر، قد يكتشف المرء شعورًا عميقًا بالوعي الذاتي والتحرر من قيود قبضة الزمن التي لا هوادة فيها.
فقط من خلال ترسيخ أنفسنا في الحاضر يمكننا إطلاق العنان للإمكانات الحقيقية للنمو والشفاء واكتشاف الذات. ففي عالم الآن نجد العزاء والوضوح والسلام العميق الذي يأتي من إعادة الاتصال بذواتنا الداخلية.
إن العيش في الماضي أو المستقبل يشبه الضياع في متاهة من الذكريات والتوقعات، والبحث بلا نهاية عن السعادة التى حتما لا يجدها المرء. فالشخص التعيس دائما سجين عقله، وغير قادر على احتضان جمال وإمكانيات اللحظة الحالية.
ولذا فليعلم كل من يتجول بين أصداء الماضي وظلال المستقبل أنه : يتم العثور على الرضا الحقيقي من خلال احتضان اللحظة الحالية بقلب مفتوح وعقل صافٍ.