من الصعوبة بمكان في أغلب مراحل الزمان، أن تأتي الإشادة من الخصم لخصمه، وحسبنا إذا كانت الخصومة سياسية بحتة، فكيف إذا كانت الخصومة عقائدية محضة !!
وبضرب المثال يتضح المقال …
كان أبوجعفر المنصور يجلس بين حاشيته يوماً، فقال لهم أتدرون من هو صقر قريش؟ قالوا عن بكرة أبيهم في نفس واحدة، بالتأكيد أنت يا مولانا؟ فقال لهم لا ؟ فعدوا له أسماء من بني العباس وآخرين من بني أمية ! وفي كل مرة يقول لهم لا … حتى فاجأهم بأن صقر قريش هو خصمه السياسي، الخليفة الأموي عبدالرحمن الداخل، ثم استرسل قائلاً ( دخل الأندلس فاراً بنفسه ، مؤيداً برأيه، مستصحباً لعزمه ، يعبر القفر ويركب البحر، حتى دخل بلداً أعجمياً، فمصر الأمصار ، وجند الأجناد، وأقام ملكاً بعد انقطاعه بحسن تدبيره )
هذه كانت إشادة إيجابية مبعوثة من خصومة سياسية ….
غير أن الأغرب أن تأتي الإشادة من الخصماء العدائيين عقائدياً، الذين أقروا صاغرين بمنح خصمهم وعدوهم السلطان العثماني سليمان القانوني لقب العظيم …
تلك شهادة حق وإن كان المراد بها باطلاً، فسليمان الأول بن سليم الأول كان عظيماً، مهيباً، جديراً بالتفخيم خليقاً بسليمان العظيم …
تأتي هذه الخاطرة تزامناً مع مرور أربعمائة وست وخمسين عاماً، على رحيل السلطان سليمان القانوني، أحد أعظم سلاطين بني عثمان، وواحد من أعظم حكام التاريخ مطلقاً، المجاهد الفاتح، مُرسي القوانين ومشيد القلاع والحصون، الذي أذعر ملوك وقساوسة أوروبا أيما ذعر، مجاهداً ومداهماً ونداً وممزقاً لأحلافهم، برداء وراية الإسلام فأنّى بعد هذا إلا الفخر …
كان سليمان القانوني معتزاً بدينه، مقتدياً بأكابر الملوك سليمان بن داوود عليهما السلام، فيستلهم من وافر عبقه عزة بالله ومنعة من أعداء الله مخطاً ببنانه ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) …
حكم سليمان القانوني ديار بني عثمان ونصف الكرة الأرضية بشريعة ربه زُهاء نصف قرن، وقاد بنفسه ثلاثة عشر حملة جهادية ، مكللة بالرفعة متوجة بالعزة .. ونسخ القرآن الكريم بمداده ثماني مرات ….
أرعب أوروبا بعز الإسلام، وقوض ملوكها وجعلهم طوع بنانه ورهن إشارته، وأذل أساطيلها وفرق تحالفاتها في التهلكة …
قاد جهاداً عثمانياً بروح الإسلام بحرياً وأرضياً، ووصل حدود فيينا، بعد سلسلة فتوحات خالدة تالدة، في البلقان وبلجراد وأفريقيا، وكان عوناً للأندلسيين المستضعفين، من عصبة الأسبان والبرتغاليين، عبر قائده البحري العبقري خير الدين بربروس….
لاجرم ولاغرو أن هذا السلطان كان أقرب ما يكون مركزاً للجاذبية الأرضية ، فقد جعل العالم كله يرنو ببصره إلى شخصيته الألمعية، بين تائق لسيرورته محباً ومتأسياً، وناقم عليه حاقداً ساخطاً ….
إن لم يكن سليمان أبرز حكام بني عثمان، ولو سبقه وارتقاه محمد الفاتح، أو حاذاه أبوه سليم الأول وجديه بايزيد ومراد ، فإن اتساع رقعة الزمن لسليمان في الحكم، أهلته لإحراز إنجازات تستعصي على سائر سلاطين بني عثمان في عدة مضامين ، فقد حاصر أوروبا شرقاً وغرباً ووسطاً، وداهم الصفويين والإيرانيين، وصنع أعظم إسطول بحري في التاريخ ، كان له قصب السبق والغلبة في إيقاع هزائم منكرة بأساطيل أوروبا والبندقية … وشيد أبرز المساجد والقلاع والحصون ، في جميع بقاع بني عثمان، بلمسات وبصمات المعماري العبقري سنان ..
سليمان القانوني ومضة في تاريخ الأمة لا ريب ولا مراء ، وحاكم وافر الصفات والملكات، جواد في تدينه وإنسانيته، غيور على حياض الإسلام ، منقطع القرين، شامة على جبين عشرات الملايين الذين أسلموا على يديه الناصعتين …
صدقت يا سليمان وصدقت مقولتك يا سليل بني عثمان ، وقاهر الروم والفرس والفرنجة والبلقان …..
( أنا سلطان السلاطين ، وبرهان الخواقين، ومتوج الملوك، وظل الله في الأرضين، وسلطان البحرين، وخادم الحرمين الشريفين ) …