رغم أن الرجال يتشابهون في تركيبهم النفسي وطبيعتهم البشرية إلا أن صنفين من الرجال يشذان عن القاعدة ،الرسام والروائي.
فالرجل بتركيبته النفسية لايلحظ التدرجات الطفيفة بين الألوان ولايعرف سوى الألوان الرئيسية أو الأساسية ولا يفقه كثيرا من طريقة تفكير النساء وردود أفعالهن ورغباتهن وتعاملهن مع الضغوطات.
إلا الرسام لاتنطبق عليه هذه القاعدة ،فزوجي الفنان التشكيلي يلتقط أي تغيير في لون شعري ولو بدرجة عشرية مع الفواصل وكذا ينتبه لأي تغيير قطعة أثاث في المنزل حال دخوله.
وكذا الرجل إن كان روائيا،لديه ملكة فطرية في فهم سيكولوجية المرأة بشكل يثير الدهشة فعلا.
وهذا ما يظهر جليا في رواية( فيرجوالية) للروائي سعد سعيد .
فهو هنا يتحدث بصوت رجل واحد مرة وبأصوات نسائية عديدة مرات ،فيتحدث بلسانهن بخبرة ودقة كبيرة لتركيبة المرأة النفسية.
موضوع الرواية هو أن وحدة SSR 2981957-TS وهو جزء من جهاز الكومبيوتر الذي يحتفظ ويخزن المعلومات وقد استعمله هنا سعد سعيد رمزا للرقيب ،رقيب على أفعالنا في الخفاء ،مانفعله من موبقات ومتناقضات خفية عن أعين الناس ،لكنها لاتخفى عن الرقيب والذي يسجل مااقترفت جوارحنا في سجل محفوظ ،وترك لنا سعد سعيد تخيل ماهية هذا الرقيب ،فربما يكون خالق الكون الأقرب لنا من حبل الوريد وربما الملائكة الحافظين الذين يعدون علينا حركاتنا وسكناتنا وربما هو الضمير أو سلطة أخرى بالفعل تحفظ عندها كل معلوماتنا الألكترونية فنحن نعلم جيدا أن كل المواقع مخترقة والكوكل نفسه يحفظ عنده الصور والمعلومات وتحركاتنا حتى لو محوناها تبقى محفوظة عندهم فنحن عراة بالفعل ومخترقون من قبل هذا العالم الإفتراضي والذي اشتق منه سعد سعيد اسم روايته فرجوالية وهو virtual world العالم الإفتراضي.
فماذا يحدث لو تم نشر غسيلنا الوسخ أمام العالم بالفعل؟!!
،تناقضاتنا ازدواجيتنا افعالنا التي تعاكس هتافاتنا.
فوحدة الخزن هذه SSR 2981957-TS هنا تهدد الروائي بأن تنشر كل محادثاته التي جمعتها خلال عام كامل في الموقع الذي ينشر فيه نصوصه الأدبية ،فهذا الشيء الآلي لايدرك الفرق بين المحادثات الشخصية وبين العمل الأدبي الذي نريد نشره للعلن.
رواية فيرجوالية تمردت على تقنيات السرد الروائي التقليدي فهي بلا متون سردية ولا وصف للوجوه والأماكن بل هي حوارات لرجل يعمل روائيا يدردش مع نماذج متعددة ومختلفة من النساء على الفيس بوك ،ومن ملاحقتك لتلك الحوارات يدخلك سعد سعيد في حكايات وحبكات وعوالم مختلفة يطرح فيها مشاكل يجرنا إليها ذلك الواقع الإفتراضي فننزلق دون أن نعي كارثة الرمال المتحركة التي سنغرق فيها .
لقد وضع لنا هنا سعد سعيد نماذج مختلفة من النساء فكل واحدة منهن تحادث نفس الشخص ألا وهو الروائي( أنس حلمي) لكن هذا الروائي الذي يغير نغمته وطريقته في الحوار لتكون مختلفة تماما من امرأة إلى أخرى ،فالتي تضع حدودا للأدب واحترام الذات لايتخطى هو حدوده معها والمتهتكة والباحثة عن المجون يحادثها بنفس لسانها أما التائهة والجائعة عاطفيا بسبب ظروفها وقيود المجتمع يحاول هو سبر غورها ويواجهها بالحقيقة ويحرجها بواقع تفكيرها المتناقض لكنه يلتزم بحدود الأدب معها مادامت لم تهن نفسها وهكذا نجد في هذه النماذج الزوجة المهملة عاطفيا من زوج مشغول لايدرك أن هناك رجال كثر يمكن إن يستمعوا ويهتموا بزوجته إذا ما أهمل الإصغاء اليها والحديث معها وتقدير أنوثتها فأقل مايمكن أن تفعله تحت هذا الضغط هو أن تفضفض مع رجل غريب لايعرفها على مواقع التواصل الاجتماعي لأنها أقوى من أن تنزلق في الرذيلة لكن قد ينزلقن غيرها إن كن أكثر هشاشة وهذا تحذير مهم قد تطرق إليه سعد سعيد في روايته هذه.
ثم نموذج آخر لواحدة تشكو جوعا عاطفيا وجنسيا وأخلاقيا فتطرق باب صفحته كذلك للثرثرة ولاتمانع في أكثر من ذلك .
في تلك الحوارات الغنية التي أدارها سعد سعيد لوحده متقمصا شخصية روائي وشخصيات نسائية عديدة ،تلك الحوارات التي ضخت فيها كميات مهولة من الإشارات الحمراء الخطرة لتنبيه الناس لما قد تصل إليه زوجة مهملة من زوجها أو زوج مشغول بالعمل فلايدرك ماستعانيه زوجته الشابة العالقة في الفراغ الزوجي وإلى إين يمكن أن تنزلق ففي إحد هذه الحوارات تقول تلك الزوجة للروائي بعد أن سمعت صوته بمكالمة واحدة
(صوتك رجولي لكنه مع ذلك ينبض بالحنان ،كيف تستطيع أن تفعل ذلك أن تجمع هذه المتناقضات؟)
فيرد عليها بتفاخر ساخر؛(لأنني أنس حلمي) ،أي يقصد أنه رجل روائي سبر غور النفس البشرية وكنه نفوس النساء ويعرف كيف يضرب على الأوتار.
أما سؤالها وتعجبها هي فيشير بوضوح إلى تعطشها للحنان والعواطف التي غفل عن سقيها بها زوجها الغاطس في عمله،هذا وجه من وجوه تلك الحالة التي يفرزها هذا النموذج النسائي والوجه الآخر هو أخطر حيث أن تلك الشابة المتزوجة من رجل طبيب محترم ثري لم تترك شيء تشتهيه نفسها من ألوان العلاقات مع الرجال إلا وجربته مذ تكور ثديها وهي في الثانية عشرة من مراهقتها لكنها مع هذا بقيت عذراء ونالت رجلا محترما كأي فتاة بريئة لم تقترف فسقا يوما .
وهذه ايضا اشارة حمراء للرجال الذين يقدمون على الزواج من أي فتاة لمجرد أنها من بيت فلان حسناء دون أن يكتشفوا كنهها وحقيقتها أقلها من خلال الفراسة والحديث والفهم العميق .
فهذا النموذج بالذات احتل حيزا كبيرا من الرواية لأنها طرقت على ثلاثة نواقيس للإنذار
أولها: الزوج المشغول بعمله المعمي عن احتياجات الزوجة وخطورة تركها تلتحف الفراغ والخواء.
وثانيها: الزواج من اي فتاة دون سبر غورها ومعرفة حقيقتها حيث هذه الشابة في هذا النموذج قد تعودت على الفسق مذ تفتحت انوثتها وهي صغيرة وكل علاقاتها سرية لذا لم تتورع عن الخيانة واقامة علاقة جنسية مع الروائي لملأ الفراغ بما تعتقده أنه حبا لكن سعد سعيد وضع حدا لهذه الحبكة فجعل الروائي هو من ينتبه لجرس الإنذار في اللحظات الأخيرة وينهي هذه العلاقة قبل أن يتلوثا هما الإثنان بها
وثالثها : هي الحالة التي وضع سعد سعيد فيها بطل روايته ،الرجل الروائي ،فجعله وكأنه ينزلق في عشق هذه الشابة بالفعل بمجرد سماع صوتها ومحادثتها ومشاهدة صورها ،لكنه نبهنا من الجانب الآخر إلى الفشل الزوجي الذي يعيش فيه هذا الروائي والحب الذي يتمنى الحصول عليه من زوجته لكنها لم تفعل
حيث يقول
(أن يٌحَب الإنسان أحيانا يكون أهم من أن يٌحِب،
فهذه المشاعر تجعل الإنسان يرقى إلى آفاق رائعة ،تزوده بالطاقة الكافية لأن يحب العالم كله،وهذا مالم تفهمه زوجتي يوما).
فهذا الرجل الروائي في الحقيقة لم يعشق تلك الشابة التي تحاوره بل وقع في ما نسميه أزمة منتصف العمر ،كهل يعاني جفاء الزوجة وغبائها العاطفي ، تلتصق به شابة جميلة مفعمة بالإنوثة مثقفة وذكية ،فيدفعه فضوله الروائي للتعلق بها ومعرفة المزيد عن حياتها ويعجب بذكائها وفرادتها ثم يخيل له أنه قد أحبها بالفعل .
وكذا يفسر لنا سعد سعيد بحواراته سايكولوجية الرجل ،فهذا الروائي يعيش حياة زوجية فاشلة مليئة بالصراعات لكنه يحرص على إلا تعرف زوجته شيئا عن مغامراته الألكترونية تلك وحين تسأله أحداهن لماذا تعير كل ذلك الإهتمام لزوجة لاتحبها ،أأنت جبان تخشى زوجتك ؟فيقول
(ليس جبنا ولا حبا بل كي أتجنب مزيدا من المشاكل)
.
وبالفعل هذا تحليل صائب فالرجل يبحث عن السلام داخل المنزل،فإن لم يكن هناك حب وتوافق فأقل مايمكن أن يحصل عليه هو السلام الزوجي والأسري.
ثم يرسم لنا من خلال كلماته نموذجا عاهر داعرا تماما لإمرأة تطلب بكل صراحة علاقة غير شرعية لكنه يترفع عن التواصل معها ويقول بصراحة تامة
(ابحثي عن غيري ليطفئ نارك فانا رجل مشغول بعملي وكتاباتي) .
هنا إشارة إلى شخصيات معينة من الرجال، ربما هم قلة، وهم من يتقززون من الدعارة الصريحة، وإلى شخصية ذلك الروائي تحديدا الذي يثيره معرفة المزيد عن المرأة الغامضة فيتجاذب معها أطراف الحديث بينما يطير مبتعدا كالفراشة عن أكوام القمامة نتنة الرائحة.
يقول :(مازلت أؤمن أن الزوجة هي الفرصة الوحيدة لحب معتدل متوازن ومثمر.)
وهذه حكمة ونصيحة بالفعل لأن السلام النفسي لن يتحقق في علاقات وقتية شبقية أو غير معروفة النتائج في حين يوفر الزواج الإستقرار النفسي ومشاعر تثمر عن توازن نفسي ينعكس على أفعالنا وإبداعنا وأفكارنا.
ولاتخلو النماذج النسائية التي طرحتها الرواية من خلال حوارات الروائي معهن من نموذج الصديقة المحترمة القريبة لنفسه والتي يفضي لها بمكنونات نفسه كما يفضي لصديقه الرجل المقرب جدا وهي بالمقابل تفهمه وتحافظ على سره وعلى نموذج المرأة الكاتبة الواعية التي يدور الحوار معها عن الأدب والعلوم وعالم الفيرجوالية الافتراضي بكل ايجابيته وسلبياته ،فهذا الرجل هنا المتمثل بشخصية الروائي انس حلمي لايتجاوز حدود الأدب مع النساء لكنه يتبع المثل الشعبي القائل(المايدندل زنبيلة محد يعبيله) فحين تفتح المرأة معه حديث المجون يلبي هو الدعوة ويرشقها بأحدى كلماته النارية بكل صراحة دون أي حواجز.
أما طريقة إدارة الحوارات فكانت مذهلة بحق ،فسعد سعيد يتقمص مشاعر تلك النماذج النسوية المختلفة بشكل مثير فعلا حتى كأنني كنت أسمع أصواتهن وأرى حركاتهن وتعبيرات وجوههن على اختلاف طبائعن واخلاقهن من خلال الحوار فقط دون أن يتطرق سعد سعيد إلى الوصف ،فلا وصف للشكل ولا للمكان فالحوارات كلها كانت متحررة من المكان والزمان الروائي .
ففي كلام لهذه الشابة التي يخيل للروائي أنه أحبها تسأله هي
_هل هذا يعني أنك توقفت عن الحلم؟!
فيقول
-لا،بل نقصت الأحلام عددا فقط .
وكم أعجبني هذا الرد فالبفعل بتقدم العمر تنقص أحلامنا عددا وتتضائل حجما وتشحب وتقصر قامتها،وهنا أنا أقصد الطموحات والأحلام كما قصدها سعد سعيد بالفعل في رده على تلك الشابة وليست أحلام المنام كما كان يبدو من سؤالها هي.
ثم في حوار آخر لهما يقول لها:
-ما الذي كنت تودين فعله فيما لو كنت رجلا؟
فتقول :
-كل ما تمنعني حقيقتي كإمرأة من فعله
أن أسافر متى ما أشاء
أن أعبر عن رأيي كما أريد
أن أسهر من دون أن أفكر بالوقت
أن أغيب عن البيت أياما
أن أتشاجر في الشارع إذا ماضايقني أحد
أن أرقص حيث أشاء وأن أغني متى ماخطر لي ذلك
وبالفعل ياسعد سعيد فأنا أشعر برغبة كبيرة لأتشاجر في الشارع مع من يضايقني وأطبع على وجهه صفعة بكف كبير لكن للأسف فكفي صغير لايؤذي رجلا ولابد من أن أكتم غضبي كي أحافظ على لياقتي كامرأة .
وفي نهاية هذه الرواية المتمردة على السرد الروائي التقليدي يقف البطل الروائي أمام وحدة التخزين التي تريد فضحه ونشر دردشاته ليتحداها وتتحداه هي ،هو بمشاعره الإنسانية وفهمه للمنطق حيث تفتقر لهما الآلة ،وحدة التخزين ،وهي تتحداه بالذكاء والإمكانيات وقابلية الإختراق لكل مانملكه وربما حتى اختراقها لنوايانا الصامتة وأفكارنا غير المنطوقة ، ونقول مرة أخرى عودا على بدء أن وحدة التخزين هذه شيء رمزي فليفهمه القارئ كما يشاء ،رقيب إله ملائكة ضمير شبكات تجسس تخترق كل مواقع التواصل . الخ.