أدرك تمامًا أن العنوان صادم، فكيف لرجل يعشق اللغة العربية ويجدد في أساليبها ويحوز لقب عميد الأدب العربي عن جدارة… أقول كيف لرجل مثل هذا لا يبدي أي تعاطف مع غناء أم كلثوم ولا يطرب لموسيقى عبد الوهاب؟
وقد بذل الاثنان جهودًا جبارة للرقي باللغة العربية والموسيقى الشرقية؟ حيث ترنم كل منهما بعشرات القصائد الفصحى البليغة!
الحق أن طه حسين لم يقل بوضوح إنني أكره أم كلثوم أو إنني لا أحب عبد الوهاب، لكنه أعلن بحسم وحزم أنه لا يتعامل مع الموسيقى العربية ولا ينفعل بها،
والسؤال: لماذا خاصم الأستاذ العميد أحد أهم مكونات الثقافة العربية، أعني الموسيقى، وهو الذي طالب مرارًا بتطوير ثقافتنا والتخفف من حمولة الأفكار التي تعرقل ازدهارها؟.
في السطور التالية سأحاول تحليل الموقف الغامض، ولن أقول العدائي، لصاحب (الأيام) من موسيقانا العربية.
اللقاء النادر
في أوائل نوفمبر من عام 1969 أجرت المذيعة سميرة الكيلاني حوارًا تلفزيونيًا مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين من خلال برنامج (كاتب وقصة) الذي كان يخرجه يحيى العلمي المبدع صاحب المسلسلات الشهيرة مثل (رأفت الهجان)، و(الأيام)، و(دموع في عيون وقحة) عن البطل المصري جمعة الشوان.
في هذا الحوار النادر انهمرت الأسئلة المتنوعة على الأستاذ العميد، وكم هو ممتع أن تشاهد ردوده وصراحته وبلاغته عندما يجيب عن هذه الأسئلة،
فقد تحدث عن الذين تأثر بهم من الأدباء العرب حيث ذكر بالاسم (الجاحظ) و(المبرّد)، صاحب كتاب (الكامل في اللغة والأدب)، وأستاذه في الأزهر الشيخ سيد علي المرصفي،
كما تكلم عن ذكرياته مع كتابه موفور الصيت (في الشعر الجاهلي)، وكيف تلقى رسائل التهديد بالقتل، واتهم صراحة الملك فؤاد (ملك مصر آنذاك) وحزب الوفد بأنهما كانا وراء هذه الأزمة عند صدور الكتاب عام 1926.
بتواضع شديد تحدث العميد أيضا عن دوره في إقرار التعليم المجاني لطلبة الثانوي، بينما أكد أن الفضل يعود إلى نجيب الهلالي باشا وزير المعارف بوصفه أول من قرر مجانية التعليم الابتدائي،
في حين قرر طه حسين نفسه مجانية التعليم الثانوي والفني. ثم قال بالحرف (أحب ان أشكر للسيد رئيس الجمهورية، يقصد جمال عبد الناصر، أنه حقق ما منعت أنا من تحقيقه وهو مجانية التعليم الجامعي،
فقد طالبت به عندما كنت وزيرًا، كان ذلك في عام 1950، ولكن الملك، يقصد الملك فاروق، أبى ذلك كل الإباء وقال إني أريد أن أنشر الشيوعية في مصر، وقبل الوزراء رأيه فلم يوافقوا على مجانية التعليم العالي).
وقبل انتهاء اللقاء بقليل سألته المذيعة سميرة الكيلاني:
(أعرف أن لك اهتمامات أخرى غير الأدب والفكر. “حضرتك” تهتم بالموسيقى.. هل تفضل الموسيقى الكلاسيك أو الموسيقى الحديثة؟ وهل تتابع المحاولات الجديدة في الموسيقى الشرقية؟).
لاحظ أنها لم تقل الموسيقى العربية، وإنما قالت الشرقية، كما لم تحدد أسماء معينة في سؤالها ممن أبدعوا محاولات جديدة في الموسيقى الشرقية،
ومع ذلك فقد أجابها الأستاذ العميد هكذا، وبالحرف الواحد : (آسف أشد الأسف لأني لا أتابع المحاولات في الموسيقى الجديدة،
ولكني أوثر الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، ولاسيما باخ وبيتهوفن وموزار ومن إليهم من الموسيقيين الممتازين).
حسنا… لماذا لم يذكر صاحب (على هامش السيرة) أسماء الموسيقيين أو المطربين المصريين والعرب، لا بخير ولا بسوء؟ رغم أن الفترة التي جرى فيها هذا اللقاء، وأقصد سنة 1969، تصدر فيها قمة الموسيقى والغناء كوكبة لامعة من المبدعين المصريين والعرب نذكر منهم :
أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وشادية وفايزة أحمد وصباح وفيروز ووديع الصافي ونجاة وكمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي والأخوان رحباني وغيرهم؟.
أغلب الظن أن الموسيقى العربية/ الشرقية لم تعرف الطريق إلى وجدان طه حسين وقلبه وعقله، لا في عام 1969 فحسب، وإنما في الأعوام كلها التي عاشها بيننا. وهو أمر بالغ الغرابة، لكني سأشرحه توًا.
عبده الحامولي
ولد طه حسين في 15 نوفمبر من سنة 1889 في قرية فقيرة بصعيد مصر، وجاء إلى القاهرة عام 1902 ليلتحق بالأزهر. في ذلك الوقت لم تكن هناك موسيقى مصرية أو عربية راقية راسخة ومستقرة،
وإنما كانت الموسيقى السائدة عبارة عن خليط مشوش رتيب من الموسيقى التركية والإيقاعات الشعبية، وكان نجم الموسيقى والغناء آنذاك يدعى عبده الحامولي (1836/ 1901)،
وأتخيل أن طه حسين لم يستمع إليه مباشرة، إذ لم تكن الاسطوانة قد دخلت مصر بعد، كما أن الفتى طه هبط أرض القاهرة بعد وفاة الحامولي بعام.
ومن ثم أزعم أن فترة الشباب الأول لطه حسين لم تعرف الموسيقى إليه سبيلا، وهو لم يذكر عنها أي شيء في الجزء الأول من سيرته الرائعة (الأيام)، باستناء عازف الربابة في القرية.
في سنة 1914 نال طه حسين الدكتوراه من الجامعة المصرية، فغادر القاهرة متوجهًا إلى فرنسا لنيل شهادة الدكتوراه الثانية، وقد حصل عليها بالفعل عام 1918،
وهناك، في باريس تكونت البذرة الأولى الصادقة لعلاقة الرجل بالموسيقى، وازدهرت على مهل في غلالة من الغرام الجميل، إذ ارتبط عاطفيا بالفتاة الفرنسية المثقفة الرقيقة (سوزان بريسو) زميلته في الجامعة، والتي تزوجها وأنجب منها طفلين.
هذه الفتاة، كما أتخيل، هي التي قادت الشاب المصري النابغة (الأعمى) إلى سماع الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية، فاصطحبته إلى دار الأوبرا والمسارح المتنوعة بفرنسا ليسمع موزار وبيتهوفن وباخ وتشايكوفيسكي وفاجنر وغيرهم من عباقرة الموسيقى الذين ظهروا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
على مهل امتصت روح طه حسين رحيق الموسيقى الغربية، وتشبع وجدانه بإيقاعاتها ورنينها وانفعلت نفسه بنغماتها وصداها،
فصارت تلك الموسيقى هي التي تثير خياله وتهذب مشاعره، وباتت السيمفونيات والسوناتات والكونشرتوهات بمثابة حدائق شاسعة يمرح فيها الخيال حرًا طليقا يتذوق ويستمتع ويتأثر.
درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم
اللافت أن طه حسين أكبر من أم كلثوم بتسع سنوات (مولودة في 1898)، ومن عبد الوهاب بثماني سنوات (مولود في 1897)، ومن سيد درويش بثلاث سنوات (مولود في 1892)،
والثلاثة يمثلون أهم الأعمدة في معمار الغناء العربي الحديث وموسيقاه، وعندما جاء سيد درويش من الأسكندرية ليملأ ليالي القاهرة بموسيقاه وأغنياته عام 1917 كان طه حسين ينصت بهدوء وبوجدان مرتعش إلى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن في أوبرا باريس!
ولا ريب عندي في أن السيدة سوزان قرينة العميد حملت معها أسطوانات أساطين الموسيقى الكلاسيكية عندما جاءت إلى القاهرة للمرة الأولى مع زوجها عام 1919.
أظنك تعرف طبعًا أن ثمة فوارق جوهرية بين موسيقانا المصرية والموسيقى الكلاسيكة الأوروبية، وهي فوارق جمة حالت، فيما أظن، أن يتمكن الأستاذ العميد من إجراء مصالحة بينهما،
فلم يتمكن من تذوق موسيقى سيد درويش حين انطلقت بين أعوام 1919 حتى رحيله في 1923، كما لم ينتش بموسيقى عبد الوهاب وصوته حين ظهر في منتصف العشرينيات، وكذلك لم يطرب لحنجرة أم كلثوم وأدائها الساحر عندما استحوذت على أذان الناس في نهاية العشرينيات!.
أجل… حقق طه حسين قفزات عقلية مدهشة لتطوير الفكر العربي، وحرر اللغة العربية من أسر البلاغة القديمة، وانحاز إلى ملايين البسطاء في مصر عندما رفع شعاره التاريخي التعليم كالماء والهواء يجب أن يكون بالمجان،
لكنه عجز عن تذوق موسيقانا العربية، وخاصمت أذناه الحناجر الذهبية لعبد الوهاب وأم كلثوم، لكن لأن دوره التنويري بالغ الأهمية، فقد تغاضى الناس، أو لم ينتبهوا، إلى موقفه السلبي من موسيقانا العربية…
وقنعوا وفرحوا بما قدمه لهم من فكر مستنير وإبداع مدهش ورشاقة لغوية فوضعوه في أكرم ركن في قلوبهم، وأحاطوه بالإجلال والحب والتوقير… وهو يستحق ذلك بكل تأكيد.
- في نهاية ذاك اللقاء التليفزيوني قال طه حسين باللهجة المصرية العامية (أنا ما عنديش تليفزيون)!
وكان ذلك في الربع الأخير من عام 1969، على الرغم من أن مصر عرفت الإرسال التليفزيوني قبل ذلك التاريخ بأكثر من تسعة أعوام، وبالتحديد في يوليو 1960.