كانت ليلة طويلة ظلام دامس، خيم الضباب على المكان ،انعدمت الرؤية، لا شيء يوحي بالحياة في هذه القرية سوى صوت الرياح وحفيف الأشجار، الصمت السائد في المكان يشبه غيوم تشرين.
كان رجلا قويا، رغم ذلك الجسم الهزيل الهرم، الذي تكسوه التجاعيد، وشعره الذي اشتغل شيبا، العم راشد ذالك الرجل الكريم والأمين، المحب لأهل بيته وقريته، مثالا على التضحية والوفاء، لا يملك من هذه الدنيا سوى حضيرة صغيرة لتربية الدواجن، ،قنوع بما رزقه الله من نعمه، وأجملها الخالة سالمة،زوجته وحبيبة قلبه ورفيقة دربه،لها حكاية مختلفة تماما عن واقع العم راشد، فهي إبنة أغنى رجل في القرية، وحيدة والديها ،أحبت العم راشد في صغرها، لكن للاسف قُبلت هذه العلاقة بالرفض والسخط من طرف العائلة، لأنه من عائلة فقيرة، ولا يناسب مستواهم الاجتماعي، حاولت كثيرا أن تقنع والدتها لتساعدها حتى تغير من رأي والدها، لكن في كل مرة تفشل في ذلك، فقررت الهرب مع حبيبها، ضاربة بذالك مكانة عائلتها وسلطة والدها وجبروت والدتها، التي كانت تحكمها بقبضة حديدية، فهي لم تعرف عطف الأب يوما ولا حنان الأم، رغم الثراء والبيت الكبير، لكنها كانت وحيدة كمهرة معزولة عن القطيع،لا شيء يؤنس غربتها سوى ذكرياتها الجميلة ،بكت كثيرا متوسلة لوالدتها، لكن هيهات،فهذه المرأة أشد قسوة من الحجر، ابتلعت رحيق الألم، وتوارت أيامها خلف تلال الوجع،كانت تعيش على بقايا حلم، رسمته الليالي الباردة، على أنين الصمت، تناوبت عليها الأيام، والساعات،وحيدة تلوك آهات البعد والحرمان من حبيبها وسعادتها، تراقب السماء المتلبدة بالغيوم، من نافذة الأمل، أخيرا بعد كل هذا التعب وما تجرعته من ذل وسوء المعاملة من والديها، هناك صوت من الداخل يصرخ بقوة معلنا تمرده على حياتها الرتيبة. عصفت بها رياح التغيير والعصيان، فقررت أن ترفرف جناحيها الصغيرتان خارجا، والهروب من هذا السجن العتيق، الذي تملأه رائحة الاضطهاد والقهر،أخيرا قررت أنها لن تنحني وتواجه طغيان والدها، تاركة خلفها اصفاد الماضي وصوت العتاب،يندثر مع كل خطوة تخطوها خارج القبو المظلم، إلى عالمها الجديد.
في زاوية معزولة كان يجلس وحيدا مضجرا، يقاسم أحزان روحه المتعبة مع سرب الحمام صديقه الوحيد، يشكو وحدته من غياب زهرة الرافليزيا، ” كما يحلو له تسميتها” عن حديقته الجرداء، مع ذكريات قلبه المحطم، الذي كان ينزف بصمت، لقد أصبح يعيش في حرب دائمة مع نفسه، والظروف التي أجبرته على فراق حبيبته، لماذا هذا الاستسلام في مواجهة مصير علاقته، التي بدأت تتساقط بتلاتها أمام عينيه، ليتجرع ويلات الظلم والخضوع. شاردا يساوم أفكاره ليظفر بحل يجمعه وحبيبته،فجأة إحساس مرهف توق قلبه الممزق شوقا، يسمع صوتا يهمس بين ثنايا الصخب، شق مسمعه كما تشق كاسرة الحجر صلابة الطبيعة، اتسعت عيناه فرحا، وتراقصت نبضاته على عزف اللقاء، ليعانق قلبه سعادة الكون المترامي حبا.
لم يكن ليصدق أن زهرته النادرة، اقتلعت جذورها من بين الأشواك المسمومة واختارت قلبه أرضاوموطنا لها ولحبها،لينتفض من صمته القاتل قائلا……
سالمة يا نبض القلب يا عطر النرجس، ورقة الياسمين ،هذه أنت؟…….أهذه أنت؟ ، صار يكرر كلماته والدهشة تعلو ملامحه الشاحبة، نعم إنها أنت!! ارتمت بين يديه وهي تمسك بيدها باقة من الأمنيات لتبعث بشعاع النور في قلب سلطانها الاسطوري قائلة……
“لجأت إلى قلبك من شيطان يطاردني…..
عليلة القلب…..وحبك ترياق ….
ضمني لروحك….ضمة…..وقبلة…..وعناق..
احتوي خوفي وجنوني ….
من دونك الحياة جحيم لا تطاق….
نعم هذه أنا، وقفت طويلا أنتظر في طابور الأحلام، تأخر دوري كثيرا، لأكون في هذا المكان، حياتي معك مكتوبة بحروف من عطر الورد على جدران الحب، رسمها القدر وخطها عاشق من سلالة الأساطير.
ليرد قائلا……..
أخبرتني نسمات الصباح أنك قادمة..
هربت مني حروفي……رأيت سحر عينيك في مرآة قلبي…..
تأنقت روحي لتلقاك…..ونسيت النظر في مرآتي…..
جهزت موكب اللقاء….وزينته بقبلاتي وأشواقي……
اسقيني نبيذ شفتيك…..فقلبي لضمك مشتاق…..
الجزائر