من حسنات صروف الدهر ومحنه، وأزماته المتتابعة،تدبر الأمر وإعادة قراءة المشهد بتداعياته ومستجداته، وأحيانا العودة قليلا للماضي لتلمس العبر والدروس والمواقف.
ورب ضارة نافعة ،وكما يقول الله عز وجل في محكم تنزيله الكريم :(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) “البقرة: 216”.
وفي هذا الشأن تحدث كثيرون وأفاضوا عن حقيقة الارتباط بين العلوم الطبيعية والتجريبية والعلوم النظرية أوالإنسانية ،بينما حاول آخرون خلط الأوراق والسير نحو فرض القناعات بضرورة الفصل بينهما والتقليل من شأن العلوم الانسانية وتأثيرها علي منظومة الحياة وعلي تطوير العلوم الطبيعية نفسها.
ووسط هذا الزخم الكبير ،والجدل الواسع حول أهمية العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، عاد إلي الأذهان وإلي آفق التفكير ضرورة تأصيل العلوم العربية والسعي لتوطينها والإسهام بصورة فعالة في تدشين صور الحضارة العلمية المعاصرة ،بعيدا عن فكرة الإتكالية وانتظار ما تبثه قرائح الغرب من أفكار ورؤي وعلوم وتكنولوجيا.
كما طرح بعض النخب والمفكرين العرب دعوات مهمة للبحث عن تاريخها ومناقشة
الحلقات المفقودة، التي تحول دون أن تنل علومنا العربية والإسلامية ما يليق بها من مكانة مرموقة،مدعومة برموزها عبر مراحل التاريخ القديم والحديث والمعاصر،وبما قدمته من علماء ومفكرين وفلاسفة وباحثين ومبدعين.
وأتصور أنه في قضية تأصيل وتوطين العلوم من الأهمية أن نبدأ من محطات انطلاق ثابتة ،والوعي بحقائق التاريخ ومدي إسهام علماء ونوابغ العرب المسلمين في المشاركة في تأسيس مرتكزات الحضارة العلمية الإنسانية ،رغم محاولات بعض الأبواق الأممية النيل من هذه الحقائق أو التقليل من شأنها وفقا لدوامة طمس الهوية وتغيير وقائع التاريخ.
ويكفي في هذا السياق أن نشير لأحد النماذج التي انطلقت من بوتقة العلوم العربية والإسلامية ففكرة “الخوارزميات” التي تتصدر مشهد التقنيات المعاصرة وتكنولوجيا الذكاء تعود في الاسأس في المسمي والنظرية للعالم أبوجعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي.
وهي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مسألة ما،
والكلمة المنتشرة في اللغات اللاتينية والأوروبية هي «algorithm» وفي الأصل كان معناها يقتصر على خوارزمية لتراكيب ثلاثة فقط وهي: التسلسل والاختيار والتكرار.
وفي سياق تجديد كتابة تاريخ العلوم العربية برزت رؤي ومقترحات لأحد العلماء والفلاسفة المصريين وهو الدكتور رشدي راشد عالم الرياضيات المصرى المقيم بفرنسا أستاذ تاريخ العلوم العربية بجامعة باريس ،مدير مركز الأبحاث العلمية في باريس ،والذي تحدث في مناسبات عديدة وعبر مجموعة من الأبحاث حول وضعية العلم العربي على تاريخ العلوم، والأثر الذي خلفته هذه الصورة على تاريخ العلوم.
كما طالب بضرورة تعديل الصورة التي طرحت في الغرب لتاريخ العلوم، وتقديم فهم أوضح وأصح للعلم الكلاسيكي ولكيفية ظهور العلم الحديث.
ويري د.راشد أن تجديد كتابة تاريخ العلم العربي يقودنا إلى تجديد تاريخ العلوم جملة، فتح الطريق أمام فهم حقيقي لتاريخ العلم الكلاسيكي بين القرن التاسع والقرن السابع عشر.
ووفقا لرؤيته فإن تجديد تاريخ العلوم عامة يبدأ بإعادة رسم الصورة التي شوهتها النظرات العقائدية، ومعرفة الثقافة الإسلامية حق المعرفة بإعادة ما كان من أبعادها، وهو البعد العقلي العلمي، فالتراث الإسلامي لم يكن لغة ودينا وأدبا فحسب، بل كان أيضا علوما وفلسفة ومنطقا؛ وهنا وهناك كانت أصالة هذا التراث وعالميته وانفتاحه.
وكان من نتيجة هذه الأبحاث تغير مفهوم الحداثة عند الدكتور راشد، فالحداثة ليست حداثة واحدة، هي الحداثة الأوروبية ،وإنما حداثات متعددة.
ويتساءل: في بعض البحوث العلمية يعمد البعض إلى هدم الحواجز التقليدية بين العلوم المختلفة فهل هذا استجابة لمتطلبات الحداثة؟.
ويجيب هو استجابة لموضوعية العمل ،وقد فرض هذا عليه أثناء عمله، فهذه الحواجز لم تكن عادة إلا حواجز خاطئة أو ايديولوجية، فالبحث عن الحقيقة التاريخية هو الذي قاده إلى هذا وليست هناك حداثة واحدة، ومن يزعم هذا لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.
ويخلص إلي أن هناك حداثات متعددة في القرن الرابع قبل الميلاد وهناك حداثة في القرن العاشر العربي وفي القرن السابع عشر وهناك حداثة في أوائل القرن العشرين ،فالحداثات متعددة ومتراكمة.
كما أنه يرى أنه من الضروري تطوير لغة عربية علمية لأن اللغة أساسية بالنسبة لتطور العلم وحتى يصبح ممكنا التواصل مع التراث العلمي العربي،وإذا تجاهلنا العلم العربي لن نفهم ما جاء به العلم الأوروبي في القرن السابع عشر، ولولا العلم العربي لما كان العلم الأوروبي خاصة في المناظير والرياضيات والفلك والطب، فهو جزء من تاريخ العلوم ولكن يمكن أن يكون له دور مهم في خلق المجتمع العلمي في البلدان العربية وخلق الوعي العملي في الوطن العربي.
وشدد علي أن المشكلة الأساسية التي يعانيها العرب هي غياب القيمة الاجتماعية للعلم، وأن تكون هذه القيمة بعدا من أبعاد العلم العربي وكذلك لفلسفة العلوم أن تساهم مساهمة كبيرة في خلق اللغة العلمية وتجديد اللغة العلمية العربية، فلا يزال هناك الكثير من الكليات تدرس العلوم بلغات أخرى بل للأسف ازداد هذا في السنوات الأخيرة ،ودعا لتدريس العلوم في المراحل الأولى على الأقل باللغة الوطنية.
وقال: إن آليات التغيير هي النظر في النظام التعليمي من أوله إلى آخره منذ البدايات وليس الجامعات والمدارس الثانوية، وينبغي منذ البداية تحديد وتوطين النظام التعليمي، لكننا نسير في حركة عكسية ،والمحك هو النظر إلى النظام التعليمي وتمكين اللغة، فاللغة هي أداة الفكر وللأسف نرى تراجعا للفصحى في البلدان العربية، وبالتالي غاب الوعي العلمي، نحن في انتظار رجوع العقل ،كما انتظرنا من قبل رجوع الروح العلمية لمواجهة التحديات، فالعلم حضارة وليس مجرد تقنيات.
ويرى الدكتور راشد أن توطين العلم في المجتمعات العربية وتحوله إلى قيمة مجتمعية أساسية مشروط بتكوين تقاليد علمية عربية، ومن تحليل الخبرات التاريخية التي مر بها الوطن العربي، ويمكن استخلاص بعض النتائج:
— يعلمنا تاريخ العلوم الكلاسيكية، الحديثة والصناعية أنه ليس هناك نقل أو استيراد للعلم، بل هناك توطين له فقط ،هذا التوطين لا يمكن تحقيقه إلا بقرار من بيده صنع القرار، وبفضل الالتزام الإرادي للنخب الاقتصادية والعلمية.
ولن يكون هناك توطين للعلم دون هذا، بل سيكون هناك فقط مؤسسات علمية ظاهرها علم وحقيقتها وهم ،فالعلم لم يكن أبدا بنية معزولة عن البنيات الاجتماعية الأخرى.
— لا يمكن توطين العلم إلا بتكون التقاليد الوطنية في البحث، وخاصة البحث الأساسي، وهذا لا يتطلب فقط تخصيص الموارد اللازمة لإنشاء المؤسسات البحثية ولصناع أجيال من العلماء ولتأمين حياتهم، بل أيضا دعم الثقافة العلمية العامة وتشجيعها، بما فيها نشر المعرفة العلمية، البحث في تاريخ العلوم وفلسفتها وتدريسها.
— لا يمكن دعم العقلية العلمية والثقافة العلمية، بل التعليم الحقيقي، دون تعريب منهجي جيد لكل صنوف التعليم العلمي.
— إقامة المراكز البحثية ذات الثقل المادي والعلمي على مستوى الوطن العربي ككل وخاصة في ميادين “العلم الضخم”، والتكنولوجيا فائقة التطور.
— تشجيع إقامة المراكز العلمية النخبية لتكوين العلماء وللبحث العلمي ليس فقط على المستوى الإقليمي ولكن أيضا على مستوى الوطن العربي.
— تشجيع المعامل الكبرى على المساهمة في ليس فقط في البحث التطبيقي، ولكن أيضا في البحث الأساسي.
— التخلص من منطق إمكانية تطوير التقنيات بمعزل عن تطوير البحث الأساسي وكذلك البحث التقني، فلقد ثبت فشل هذا المنطق كما فشل منطق نقل العلم والتقنيات والاعتماد على المساعدات الخارجية ، فهذا المنطلق “الاتكالي” لم يؤد إلى ما يفيد كما يعلمنا تاريخ العلم والتقنيات في العصور المختلفة، بل على العكس تماما يجب الأخذ بمنطق “التملك والتوطين” للعلم مهما كان الثمن، وهذا المنطق يحتم علينا تملك ، ماضي العلم وخاصة في الوطن العربي، وتملك لغته..الخ
وحول مستقبل البحث العلمي العربي يرى د.رشدي أن هناك عدة مشكلات تعترضه ،ومن أجل نجاحه يجب التركيز على التخصصات الملائمة للطبيعة العربية وأن يتم تحديد أولويات البحث العلمي بناء على ذلك، أن تكون هناك نظريات علمية تصاحبها نظريات تطبيقية تفيد منها المناطق العربية.
كما يري أن مستقبل المجتمعات العربية مرتبطا بالنهضة العلمية وأنه من الضروري التركيز على تعليم المتميزين كمدخل لصناعة العلماء.
كما يطالب المجتمعات العربية المعاصرة التخلي عن فكرة الإتكالية واعتبار العلم قيمة مجتمعية أساسية ودافعة، فهو أساس النهضة.
وفي هذا الشأن نوقشت مؤخرا رسالة علمية لنيل الدكتوراه حول المشروع الفكرى للعالم الفيلسوف د.رشدي راشد مقدمة من الباحثة
هويدا أحمد مروان بقسم أصول التربية بكلية التربية جامعة عين شمس تحت عنوان : دور التربية فى تكوين الوعى بتاريخ العلوم العربية وعلاقته بتوطين العلم فى ضوء فكر رشدى راشد.
ويمثل توطين العلم أهم الأهداف التي سعى إليها رشدي راشد من خلال مشروعه الضخم؛ منطلقا من تاريخ العلوم العربية، وما قدمه من دور متميز في إعادة كتابة تاريخ العلم.
وقد قدَّم راشد رؤيته عن الآلية التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الحلم، ومن أهم تلك الآليات تأتي الآليات التربوية على رأس القائمة.
ناقشت الدراسة الإطار الحضاري للعلم العربي، كما استعرضت المشروع الفكري لرشدي راشد، والذي يتكون من ثلاثة أركان: إعادة كتابة تاريخ العلم، ترييض العلوم الاجتماعية، توطين العلم.
كما تطرقت الدراسة إلى كيفية تحقيق عملية الاستدامة البيئية والاقتصادية والاجتماعية، وسلِّطت الدراسة الضوء على التحديات والفرص المتاحة والممكنة لتنفيذ هذا المشروع،
ومن أهم النتائج :
— يحتاج توطين العلم إلى مجموعة من الآليات التربوية لنشر الثقافة العلمية وتكوين الوعي بتاريخ العلوم العربية والعمل على تدريس النظريات العلمية في ظلِّ سياقاتها الاجتماعية.
— الاهتمام باللغة العربية وتعريب العلوم رافعة أساسية لتوطين العلم.
— الترجمة تحتاج إلى نوع من المأسسة والمنهجية وفق حاجات ومتطلبات المجتمع العلمي لتخدم البحث العلمي.
— وأن من أهم متطلبات بناء مجتمع علمي عربي هو أن يصبح العلم قيمة اجتماعية، وأنه لا بد من وجود تقاليد وطنية للبحث العلمي، كما أن تمويل البحث العلمي يعدُّ مسألة مصيرية فيما يخصُّ التقدم العلمي وتوطين العلم، وهناك الكثير من الفرص المتاحة لإنشاء مدينة علمية عربية، كما يمكن
التغلب على التحديات.
كما أوصت الدراسة بالعمل على دمج مشروع “رشدي راشد” ضمن النظم الثقافية والتربوية العربية، الاهتمام باللغة العربية العلمية وإعداد المعاجم الخاصة بذلك بصورة موسَّعة، والتركيز على إدارج تاريخ العلوم العربية كمقرر ثابت ضمن المقررات الدراسية في جميع المراحل التعليمية، ونشر الثقافة العلمية بتاريخ العلوم بكل الوسائل، والعمل بجديَّة على ضرورة توطين المنهجية العلمية الإسلامية ،والاهتمام بالبحوث الأساسية.
وكما هو الحال في مختلف القضايا العربية ستظل فكرة توطين العلوم العربية وتحصين تاريخها المبهر مرتبطا بإرادات قوية وتعزيز شراكات فاعلة ومنتجة.
وبحثا عن اتقاء شرور هذا الشطط المتصاعد ،وعن التعايش الإيجابي وتحقيق وفتح آفاق جديدة للتواصل الحضاري المتكافئ ،اعتقد أن القضية أمست تتسم بأهمية كبري تتطلب وقفات حاسمة ومؤثرة عبر مختلف المنصات والمحافل العلمية والأكاديمية العربية ،مع حتمية توحيد الأفكار والأهداف والاستراتيجيات حول هذه القضية ،واتخاذ إجراءات عملية للمجابهة وتصحيح مسار الأفكار المغلوطة ،والوقوف ضد محاولات طمس الهوية العربية الإسلامية..وإنا لمتطلعون.