يعمل د. بريسلاف ناكوف، أستاذ ورئيس قسم معالجة اللغة الطبيعية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، على تطوير تطبيقات ذكاء اصطناعي يمكنها التعرف على الطرق المستعملة في الإعلام للإقناع، والمستخدَمة أيضاً في الحملات الإعلامية والدعائية المضللة. ويكتسي عمل الدكتور، من هذا المنطلق، أهمية خاصة باعتبار الصعوبة الكبيرة التي أصبح مستهلكو المحتوى يواجهونها في فهم المعلومات المتنوعة والمختلفة المتاحة لهم عبر شبكة الإنترنت.
ويعد تطبيق “FRAPPE” من بين أحدث التطبيقات التي تَمكَن ناكوف من تطويرها، وهو موقع تفاعلي يُمكِّن المُستخدمين من تحليل الأخبار من جميع أنحاء العالم. كما يوفر معلومات حول عناصر الخطاب في المقالات الإخبارية، إضافة إلى “تمكّين المستخدمين – بحسب الباحثين – من فهم كلي للأطر السياقية وأساليب الإقناع والدعاية بحسب الجهة الناشرة والبلد”. يذكر أن اسم التطبيق هو اختصار لعبارة “متصفح الأطر السياقية وأساليب الإقناع والدعاية”.
تعود بداية مشروع تطوير هذا التطبيق التفاعلي إلى عام ونصف العام تقريباً. فكرة المشروع وهدفه كان توفير أداة تساعد الباحثين على تحدِيدِ التحيزات في الأخبار. وبفضل تطوير تطبيق “FRAPPE” يقول نكوف “أصبح الآن بالإمكان الاطلاع على المواد الإعلامية المتداولة في بلدان مختلفة، وفهم مرجعيات وخلفيات الأمور التي تشكل مصدر قلق في تلك البلدان”.
جدير بالذكر أن تطبيق “FRAPPE” الذي عمل على تطويره مجموعة من الباحثين الدوليين، تم تقديمه مؤخراً خلال فعاليات المؤتمر 18 للفرع الأوروبي لجمعية اللغويات الحاسوبية (EACL). كما يشار إلى أن النسخة التجريبية منه بدأ تطويرها ضمن فعاليات “برنامج التدريب البحثي للطلاب الجامعيين” (UGRIP) خلال عام 2023.
فن الإقناع وعلمه
رغم أن جهود د. ناكوف البحثية تندرج ضمن آخر مستجدات مجال معالجة اللغة الطبيعية، إلا أن مبحث أساليب الإقناع يعد مبحثاً ذي تاريخ طويل، تعود بداياته إلى ما يعرف بدراسة “الخطاب” للفيلسوف أرسطو الذي أسس فيها لثلاث أساليب للإقناع – الأخلاق والعواطف والمنطق – التي ما تزال، إلى يومنا هذا، تستخدم لوصف طرق وأساليب الإقناع.
وتعتمد ’الأخلاق‘ على مصداقية وموثوقية وشخصية الفرد الذي يقدم المعلومة؛ أما ’العواطف‘ فتعتمد على استخدام الحجج العاطفية لإقناع الجمهور ؛ فيما يعتمد ’المنطق‘ على استخدام الحقائق والبيانات للإقناع. ورغم استخدام الأخلاق والعواطف والمنطق باعتبارها الأضلاع الثلاث المرجعية التي تشكل أساساً لتقنيات الإقناع المستخدمة، إلا أن هناك أيضاً فئات أخرى أكثر دقة توفر أوصافا دقيقة لأساليب الإقناع وطرقه.
ويتضح هذا من خلال دراسة ناكوف وزملائه التي اعتمدت استخدام مجموعة مكونة من 23 أسلوباً للإقناع بما فيها: أسلوب الإحالة على السلطة؛ وأسلوب المعضلة الزائفة أو عدم وجود خيار آخر؛ والأسلوب الذي يقتل المحادثة. وتنقسم الأساليب الـ 23 بدورها أيضاً إلى ست مجموعات أوسع تشمل: الهجوم على السمعة، والتبرير، والتبسيط، والإلهاء، والتوسيم، والصياغات المُفخخة.
تُظهِر الصورة التوضيحية أعلاه من تطبيق “FRAPPE“التفاعلي طرق استخدام أساليب الإقناع 23 في الإعلام ببلدان مختلفة. وتلقي النتائج أعلاه الضوء على استخدام هذه التقنيات في الأخبار المتصلة بالحرب الأوكرانية الروسية في ثمانية بلدان. كما يتبين من النتائج أن اللغة المشحونة تُستخدم بشكل أقل نسبياً في وكالات الأنباء الألمانية مقارنة مع التوسيم الذي يستخدم بشكل أكبر مقارنةً مع دول الأخرى. كما أظهرت النتائج نفسها الاعتماد على أسلوب المغالاة في الوطنية في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة ومصر أكثر من أي دولة أخرى.
التأطير السياقي
بالإضافة إلى تحليل أساليب الإقناع، يوفر “FRAPPE” رسما بيانيا يوضح الكيفية التي يؤطر بها الصحفيين موادهم الإخبارية التي يكتبونها.
والتأطير هو السياق العام الذي تؤطر من خلاله وسائل الإعلام طبيعة المواد الإخبارية التي تقدمها لقرائها من خلال اختيارها للكلمات والصور وزاوية التناول، والتي يمكن أن تؤثر على كيفية تفسير أو فهم الجمهور للمعلومات التي يتلقونها؛ فعلى سبيل المثال، يمكن صياغة مادة إخبارية عن تغير المناخ باعتبارها قضية اقتصادية أو قضية أمن قومي أو قضية سياسية. كما يمكن أن تتضمن مادة إخبارية محددة أكثر من تقنية واحدة للتأطير السياقي.
ويوضح ناكوف أن باستخدام التطبيق “يمكنك أن ترى ما إذا كانت بعض البلدان أو وسائل الإعلام تركز على وجهة نظر دون أخرى. كما يمكن للمستخدم تحليل الإطار السياقي لمعرفة متى يتم تأطير موضوع مثل تغير المناخ، على سبيل المثال، وفقاً لمنظور اقتصادي أو أمني أو سياسي”.
ولتطوير قدرات تطبيق “FRAPPE”، الذي يقوم بتحليل أكثر من 2 مليون مقالة، قام الباحثون بتدريب النموذج باستخدام بيانات SemEval-2023 Task 3، وهي قاعدة بيانات مشتركة تتم إدارتها بالتعاون بين كل من مركز الأبحاث المشترك التابع للمفوضية الأوروبية، وجامعة بادوفا، والأكاديمية البولندية للعلوم. وتتكون مجموعة البيانات من حوالي 1600 مقالة بست لغات: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، والبولندية، والروسية. ويشار إلى أن المقالات الموجودة ضمن مجموعة هذه البيانات تم تصنيفها وفقًا لنوعها، وإطارها (السياق)، وتقنيات الإقناع المستخدمة.
وفضلا عن تمكينه للمستخدمين من مقارنة كيفية عرض المواد الإخبارية وتقديمها للجمهور في بلدان مختلفة، يمكن للمستخدمين استعمال “FRAPPE” لتحليل مادة إخبارية محددة بهدف التعرف على تقنيات الدعاية والتأطير السياقي المستخدمة فيها.
نظرة مستقبلية
يخطط الباحثون لتوسيع مجموعة بيانات التدريب لتشمل المزيد من اللغات وتحسين مستويات دقة التطبيق لتحليل المقالات بهذه اللغات التي سيتم إضافتها مع ملاحظة أن “FRAPPE”، في الوقت الحالي، يعالج المواد الإخبارية بـ 100 لغة. كما تجدر الإشارة إلى أن تطبيق “FRAPPE” قد تمكن من تحليل أكثر من مليوني مقالة تركز على موضوعين هما الحرب الأوكرانية الروسية وتغير المناخ، ويخطط الباحثون مواصلة إضافة المزيد من المقالات والمزيد من الموضوعات التي يمكن للتطبيق دراستها وتحليلها.
ورغم أن استخدام أساليب الإقناع وتقنياته ليست بالضرورة أمراً سيئاً في حد ذاته، إلا أنه يمكن استخدامها لتضليل الناس، وفي عصر المحتوى الذي يتم إنشاؤه آليا، قد يكون من المهم أن يفهم الأشخاص كيفية استخدام اللغة للتأثير على آرائهم.
ويوضح البروفيسور ناكوف الحاجة إلى تطوير مثل هذه التطبيقات قائلاً: “لقد رأينا محتوى تم إنشاؤه آلياً وتم نشره عبر الإنترنت بغرض الخداع؛ ومواقع إلكترونية مؤتمتة بالكامل للأخبار المزيفة؛ وحسابات مزيفة مؤتمتة بالكامل وبعضها منسق. وأتوقع المزيد من محتوى الوسائط المتعددة المؤتمت بالكامل في المستقبل.”