ما السر فى قصيدة البردة الذى جعلها تعيش ما يقرب من ألف عام ولا تفقد رونقها أو جمالها؟
محمد البوصيرى (1213- 1294) عاش فى أواخر العصر الأيوبى وأوائل العصر المملوكى فى مصر. أصله من بنى سويف، ولكنه قرر الاستقرار فى الإسكندرية بجانب أستاذه ومعلمه الولى الصوفى أبو العباس المرسي. اشتهر البوصيرى بقصيدته فى مدح الرسول. وانتشرت قصيدته إلى درجة أن السلاطين أصبحت تطلب من الخطاطين أن يخطوها خصيصا وأصبح كل بيت ثرى فى مصر يضعها على جدرانه. يقال إن قصيدة البردة للبوصيرى تنشد كل ساعة تقريبا فى مكان فى العالم. وهى من أوائل القصائد التى تم ترجمتها إلى لغات أوروبية فقد ترجمها الأدباء والمترجمون إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية فى منتصف القرن التاسع عشر.
ولكن هذه القصيدة ليست أول أو آخر قصيدة فى مدح النبى محمد -عليه الصلاة والسلام- ولكنها دون منازع الأهم والأشهر فلماذا؟
لابد أن أذكر هنا أن أمير الشعراء أحمد شوقى حاكى قصيدة البردة فى قصيدة أطلق عليها «نهج البردة» واستعمل نفس قافية البوصيرى وألفاظه. تبدأ قصيدة شوقى بالبيت الشهير «ريم على القاع بين البان والعلم، احل سفك دمى فى الأشهر الحرم» تغنت أم كلثوم بالقصيدة فى أغنيتها الجميلة. وكنت أتذكر هذا البيت طوال عمرى لأن عمى -رحمه الله- كان يستقبلنى به وأنا طفلة كل مرة أزوره فيها. ولم أعرف حينها محتوى القصيدة ولا معانيها.
ومع روعة قصيدة شوقى تبقى بردة البوصيرى بكلمات تخرج من الروح وإبداع رزق من الخالق. فما السر فى قصيدة البردة الذى جعلها تعيش ما يقرب من ألف عام ولا تفقد رونقها أو جمالها؟
بحكم تخصصى البحثى فى علم اللغويات الاجتماعية فأنا أدرس تاريخ المعانى وتداعياتها وأحلل اللغة فى إطار زمانها ومجتمعها. وقد اكتشفت أسرارا لهذه القصيدة أتمنى أن أشاركها مع القارئ لأول مرة. وما كنت سأفهم هذه المعانى والأسرار لولا دراستى لتاريخ الفكر الصوفى واللغة التى يستعملها علماء الصوفية. قبل أن نفتح أبواب أسرار البردة لابد أن نحكى عن البوصيرى نفسه من هو؟ ولم كتبها؟ ينسب له البعض معجزات، ولكننا فى رحلتنا معه سنتعرف على الإنسان الذى صنع المعجزة بإبداعه قبل كل شيء.
البوصيري، واحد من الناس، مصري، يعانى أحيانا من الفقر وأحيانا من الفساد. يشكو ضيق العيش وكثرة الأولاد. يتمتع بدم خفيف يجعله يضحك على معاناته. يكتب لنا أشعارا عن حياته فنعرفه أكثر. تعلم الفقه والشرع واللغة ولكن حظه فى النجاح المهنى كان شبه معدوم. عمل فى وظائف حكومية فى الشرقية وكتب لنا عن معاناته من الفساد وسيطرة الشللية فى مكان عمله. ترك عمله وأنشأ كُتَّابا لتعليم الأطفال فى القاهرة ثم اضطر أن يغلقه لأنه لم يستطع أن يتحمل مصاريفه. قرر أن يمدح الوزراء بأشعاره لعلهم يعطفون عليه، ولكنه لم يكن يتقن المديح ولا الرياء. فخرجت مدائحه لأصحاب السلطة معظمها شكوى لحاله. وهناك قصيدة جميلة ومضحكة يشكو فيها البوصيرى كثرة العيال للوزير ويخبره أنه يأكل خبيزة هو وأهله كل عيد حتى فى عيد الأضحى. ولكن الوزير لا يعطف عليه ولا يعطيه. لديه قصائد ذم أيضا لاذعة ومضحكة كما حال المصريين. هذا هو البوصيرى الذى كتب بأنه لا يقوى على حياة الصوفية من جهاد نفسى مستمر وخلوة وصلاة وسيطرة على كل الشهوات. ولكنه حتى وهو لا يقوى على الصوفية قد ارتبط بـ«أبو العباس المرسى» ارتباطا شديدا جعله ينتقل ليعيش بجانبه فى الإسكندرية. وللعلم أبو العباس المرسى يصغر البوصيرى بـ8 أعوام ومات قبله بـ(13) عاما.
يمر البوصيرى بأزمة صحية تغير حياته. ومن المرجح أن هذه الأزمة كانت فى وقت قريب من موت أستاذه وصديق عمره «أبو العباس المرسى». يتعرض البوصيرى لما يطلق عليه الأطباء (النوبة الاقفارية العابرة). القصة التى وصلت إلينا هى أن البوصيرى يظن أنه تعرض لشلل نصفى لأن الأعراض ظهرت عليه فجأة. كان حينها يفكر فى قصيدته لمدح النبى. وعند حدوث أعراض الشلل بدأ فى إنشاد القصيدة لنفسه ثم نام فحلم بالنبى يعطيه بردته ويستمع إلى قصيدته. استيقظ عند الفجر وخرج ولم يلاحظ أن الأعراض تلاشت وأنه عاد يمشى ويتكلم. قابل حينها أحد الصوفيين فى الشارع وطلب منه أن ينشد قصيدته التى أنشدها أمس. تعجب البوصيرى كيف عرف عن قصيدته؟ فيخبره الصوفى أنه سمعها أمس مع النبى فى الحلم.
ربما يجد البعض صعوبة فى تصديق قصة الحلم ولكن مرض البوصيرى وشفاءه يمكن تصديقه لأنها حالة مؤقتة من الشلل تحدث فى الغالب تحت ضغط نفسى كبير. عُرفت قصيدته بالبردة لهذا السبب واسمها الأصلى هو «الكواكب الدرية فى مدح خير البرية».
حدث فى عصر النبى أن الشاعر كعب بن زهير ذهب للنبى وأنشد قصيدة فأعطاه النبى بردته إكراما له. وكحال كل القصائد التى يطلق عليها البردة، لم تحظ بردة كعب بن زهير بشهرة بردة البوصيرى.
ماذا كتب البوصيرى فى قصيدته ساعده على الشفاء النفسى؟ ومع من كان يتكلم البوصيرى فى قصيدته؟ وما السر الذى يجعل كل من يقرأها يستريح؟ لا يمكن فهم هذا إلا بفهم واتقان تاريخ تطور اللغة التى يستعملها علماء الفكر الصوفى الأوائل.
فنبدأ ببعض المعلومات التى ستساعدنا على فهم القصيدة وعمقها. يركز علماء الصوفية الأوائل على الارتباط بين العلم والعمل. فكونك تعرف أن الكرم مستحب لا يعنى أنك كريم. وكونك تصوم مثلا بلا أن تشعر بالغير أو ترحم أو تمتنع عن النميمة أو تجود بالعطاء لا يؤدى إلى الهدف الكامل من العمل. أن تعلم شيء وأن تعمل بما علمت شيء آخر. العمل هو ما يحاسب الله عليه وهو من ينجى صاحبه.
ويركز الصوفية أيضا على تقسيم النفس المذكورة فى القرآن إلى ثلاث. النفس الأمارة بالسوء. والنفس اللوامة والنفس المطمئنة (انظر أعمال أبو حامد الغزالى وابن عطاء الله السكندري). النفس اللوامة تلوم صاحبها على عمل السوء الذى فعله والمطمئنة لا يصل إليها إلا من يرضى فيرضى الله عنه كما يوضح لنا ابن عطاء الله السكندرى فى كتاباته وقد عاصر البوصيرى بالطبع وكان أحد تلاميذ «أبو العباس المرسى» أيضا.
فما غاية الإنسان فى هذا الوجود؟ غايته الاطمئنان. ولذا تأتى الآية الكريمة «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية».
كيف تصل النفس للاطمئنان؟ قصيدة البردة تتصف بأنها حوار طويل بين البوصيرى ونفسه فى معظم الأحيان ولكن أى نفس يتكلم معها البوصيرى؟ نفسه الأمارة بالسوء أم نفسه اللوامة أم نفسه المطمئنة؟ وماذا يقول فى بداية قصيدته فيحرك قلوبنا جميعا؟.. يبدأ البوصيرى قصيدته بأهمية الحب فى كلمات حساسة رقيقة ثم يقول «والحب يعترض اللذات بالألم»
فى الفكر الصوفى الحب أسمى شعور، هو يحرك هذا الكون، وحب الله هو الحب الوحيد الموجود غير الزائل. ولكن الألم دوما يصاحب الحب فى الحياة الدنيا ويتوق المؤمن إلى لقاء ربه للحصول على السعادة الكاملة. فيبقى الحب يسبب السعادة والألم معا. كلمات تعبر عن حال الكثيرين من البشر. تكمن عبقرية البوصيرى فى بنية القصيدة وترتيبها والحوار بداخلها. سنكمل الكلام عن معانى البردة الشهر القادم. وحتى هذا الحين أنصحكم بسماع القصيدة بأداء فدوى المالكى وتلحين د. ممدوح الجبالى.