تعمل المؤسسات التعليمية على غرس القيمية الإنسانية في نفوس المتعلمين من خلال ما تقدمه من خبرات متعددة في صورتها المتكاملة وتسلسها وفق خصائص وطبيعة كل مرحلة تعليمية وما تحمله من غايات على المدى الزمني القريب والبعيد؛ فقد باتت استنارة الفكر في ضوء النسق القيمي المجتمعي أمرًا لا غنى عنه؛ حيث إن روابط ووتائر الإنسانية تبدو في وجدان مرتبط بمعرفة صحيحة وممارسة حقيقية يمكن تنفيذها في الواقع المعاش.
وتعتبر الأنسنة شرطا ضروريا؛ لتأسيس بيئة تعليمية إيجابية، فهي تساهم في التنمية الشاملة للفرد والمجتمع، وبالتالي تحسن تجربة التعليم والتعلم وتنمية القدرات الإبداعية لدى الطلاب وتحقيق نتائج تعليمية أفضل، ونعني بأنسنة التعليم الاهتمام بإنسانية المتعلمين، وإيجاد بيئة تعليمية تدعم تطورهم الشامل، وتوفير مواقف وتجارب وممارسات وأنشطة تعليمية تساعد المتعلمين على تنمية طاقاتهم وإبداعاتهم، وتتيح لهم فرص التعبير عن أنفسهم ومشاعرهم ومساعدتهم على تطوير شخصياتهم؛ فهي فلسفة تهدف لبناء الإنسان المتكامل من خلال التركيز على إنسانية المتعلم، وتمكينه من تجربة تعليمية غنية وفريدة من نوعها لمساعدة الأفراد على النمو والتطور، وبناء مجتمع أكثر إبداعًا وتماسكًا وتقدمًا.
وفي هذا السياق، تهدف الأنسنة إلى تنمية الجوانب المعرفية والمهارية والوجدانية للفرد بشكل كامل؛ لإعداد شخص مفكر وواعي ومسؤول يفهم قيمته ومكانته ومسؤولياته، مع التركيز على النسق القيمي ببيئته وتُشجع على التفاعل الإيجابي بين الأفراد، مما يقلل من احتمالية الانحراف عن الطريق القويم والصحيح، ومن هنا تعتبر غاية الأنسنة سامية تهدف إلى تنمية الإنسان الشامل المتكامل القادر على تقديم مساهمات فعالة للمجتمع، وبالتالي تحقيق التفاعل الإيجابي والحميد والتنمية المستدامة.
كما تقوم حركة الرؤية الفلسفية التربوية في ثيابها الجديد على فكر جديد يتناسب مع الثورات المعرفية التي أضحت غازية للعالم بأسره وتؤكد قديمًا وحديثًا على الأنسنة؛ إذ يصعب أن تتخلف دولة ما عن مسار النهضة في صورتها المادية والمعنوية والتي تحكمها نتاج بشري قادر على إحداث التغيير في شتى المجالات التنموية بالأوطان، ومن ثم تتعاظم مقدراتها وتواصل تقدمها وازدهارها.
وهذا التحول يُعتبر أساسيًا لتحقيق النهضة الشاملة، سواء من الناحية المادية أو المعنوية لأهمية الفكر الجديد والتكيف مع الثورات المعرفية الأخذة في التنامي، مما يتطلب ضرورة تحديث وتطوير المناهج والبرامج التعليمية لتواكب التطورات السريعة في المعرفة والتكنولوجيا وإكساب المتعلمين مهارات التفكير النقدي والإبداعي، مما يؤكد علي ضرورة الاستثمار في العقول البشرية والتركيز على التعليم المستدام الذي يُعزز من قدرة الأفراد على مواجهة التحديات؛ لتحقيق النهضة الشاملة؛ فالسير نحو النهضة الشاملة وتحقيقها يتطلب إحداث تغييرات جذرية في الفكر التربوي، مما يُسهم في بناء مجتمع مثقف وواعٍ، قادر على مواجهة التحديات واستثمار الفرص لتحقيق مستقبل أفضل.
وفي بحر هذا التموج ما بين مؤيد للتجديد ومعضد لأثر القديم لجدواه ونفعه وأهميته وإمكانية البناء عليه، نجد أن مقتضيات التغيير في السلوك البشري تتطلب أن نتدارس صورة الطبيعية الإنسانية التي أثرت عليها متغيرات لم تكن في الحسبان، ومن ثم يجب أن نعيد النظر في نظرياتنا التربوية بما تحمله في طياتها من فرضيات ومبادئ أضحت تائه في بحر الثورات والتدفقات السيبرانية اللامتناهية، حيث تستدعي التحديات التي تواجه السلوك البشري في ظل عالم يموج بمتغيرات متسارعة تتطلب إعادة التفكير في النظريات والممارسة التربوية بمؤسساتنا التعليمية، مما يسمح لنا بتطوير استراتيجيات وطرائق ونماذج تعليمية أكثر ملاءمة تعتمد على الفهم العميق للطبيعة الإنسانية ومتطلباتها، لبناء الأنسان المتكامل والمجتمع المتماسك والفعال.
حيث إن التغيير في السلوك البشري يتطلب فحصًا دقيقًا للطبيعة الإنسانية ومدى تأثير المتغيرات المعاصرة عليها، حيث يمكننا ذلك من بناء نظام تربوي أكثر شمولية وفعالية يتناسب مع متطلبات العصر؛ نسعي من خلاله إلي إحداث توازن بين القديم والتجديد والتحديث، وتحقيق ذلك عن طريق تبني أفكار جديدة تتماشى مع التغيرات السريعة في المجتمع، والحفاظ على الهوية الثقافية والتاريخية والقومية؛ لما تحمله من قيم ومبادئ تعضد كل ما هو قومي؛ لبناء الأنسان والأوطان؛ لذلك فهناك حاجة ماسة إلى تحليل فعالية المبادئ التربوية في السياقات الحديثة وتطويرها لنظريات جديدة تعكس التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية مع دمج الفلسفات القديمة مع المفاهيم الحديثة لضمان توازن فعال يدعم التفكير النقدي والقدرة على التكيف مع المتغيرات ويؤكد على منظومة القيم الأصيلة؛ لبناء مجتمع قادر على التفاعل بفعالية مع التطورات المتغيرات المتسارعة والمتجددة.
إن متطلبات الإبداع الفكري وما يحمله من فن وأدب يحي في النفوس ماهية الجمال ويسمو بالروح لميادين وربوع المحبة والوئام والتكيف والانسجام يؤكد علينا أن نتخير ما يحقق تلك الغايات التي أضحت غريبة في عالم تحكمه المادة والنفعية المطلقة، ومن ثم نحتاج للعديد من المبادئ والفرضيات ما بين قديم يحافظ ويصون النزعة والطبيعة الإنسانية بصورة تعاونية وشراكة واجتماعية حميدة، وما بين حديث يواكب طرائق ووسائل واستراتيجيات الرقمنة الآنية ليصبح التواصل في سياجه الفاعل.
ودون شك نتطلع لمؤسسة تربوية تقدم خدمات تؤدي إلى حفظ ماهية الإنسانية من خلال ترقية لسلوكيات تصون الثوابت وتحترم المبادئ وتعلي من قدر القيم وتترجمها لأفعال نراها ونرصدها في صورة ممارسات تسهم قطعًا في إحداث تنمية تقوم على فكر مستنير ومهام تنهض بالمقدرات التي وهبنا الله إياها، وهذا يدعونا أن نهتم بما يسمو بالروح ويرقى بالوجدان ويصقل مناط الخبرة؛ فنصبح في حيز الأصالة والمعاصرة؛ فنتجنب أن تنتهك الإنسانية، ونضمن مسايرتها لعصر المعلوماتية في فضائه المفتوح.
ونعي ضرورة المد الإنساني في شتى عناصر العملية التعليمية؛ لنضمن أن يتحرر الفرد من عبودية المادية والرقمية ويصبح ربوتًا خاليًا من مشاعر وأحاسيس وجماليات تملأ وتتواجد بالطبيعة، وهنا نؤكد على فلسفة التوزان والتي تبدأ مرحلته في مدخلات العملية التعليمية ومن ثم نضمن مخرجات تسهم قطعًا في إحداث النهضة المنشودة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ورغم ما وصل إليه العالم من تقدم مبهر في مجالات الحيوات المختلفة؛ إلا أنه تم تناسي مسلمة رئيسة قامت عليها حقيقة الإعمار في الأرض؛ ألا وهي غاية التفرد الإنساني الممنوحة من رب السماوات الأرض؛ فسر الإبداع يقوم على عقل تفوق مقوماته أدوات الذكاء الاصطناعي التي اجتاحت ميادين ومجالات الحياة وسد غور الحاجة في العديد من جوانب الحياة العلمية والعملية والمعيشية.
دعونا نقرر بأن الأنسنة تقوم على حرية مشفوعة بتحمل المسئولية؛ فمن خلال ذلك يصبح الإنسان الواعي قادر على رسم سيناريوهات حياته، ولديه إتاحة إعادة هندسة أدواره ليحقق من ذلك ماهية وجوده، ويشعر بأنه يستطيع أن يسخر المقومات التقنية في الارتقاء بمعيشته، وبناء على ذلك أصبح مصير الإنسانية مرهون بممارسات هذا الإنسان.
وأخيراً، نؤكد أن الأنسنة تمثل رؤية شاملة لتمكين الإنسان من المساهمة والعطاء في المجتمع بطريقة إيجابية من خلال فهم الذات والبيئة، حيث يتبع الإنسان الطريق الصحيح ويحقق التوازن بين احتياجاته واحتياجات مجتمعه بالإضافة إلى ذلك ما سبق، نرى أن الأنسنة تحمل رؤية شاملة للإنسانية قادرة على التأسيس ومظاهرها مستديمة بذاتها، تفهم أسرار وجودها وضرورياتها، وتنتج منها ما يحمي مقدراتها البيئية؛ لإنسان يستطيع إن يقيم ويقوم أدائه بشكل ذاتي، ويحترم بني جنسه وجميع المخلوقات؛ ليصبح مليئاً بالعطاء والخير والعطف والمحبة، لا يهمل احتياجاته بصورة متكاملة تضمن صعوبة انحرافه عن المسار القويم والصحيح.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر