حري بالذكر أن الزيادة السكانية كمشكلة تعد معوق من معوقات التنمية الحضرية التي تستهدف الدول النامية على وجه الخصوص؛ فهي بذلك تعتبر محنة وهناك العديد من التحدياتٍ والمشكلاتٍ السكانية التي يأتي في مقدمتها التزايد السكاني غير المنضبط الذي يؤثر سلبًا على مخرجات التعليم والمستوى الصحي والمجال الاقتصادي والتنموي، وبما يُصعب محاولات الوفاء باحتياجات المجتمع ويحد من نهضته ورقيه وازدهاره.
وثمة ضرورة تجاه أن يستوعب الفرد الواقع السكاني كي يخطط لمستقبله بشكل صحيح، ومن ثم يضع في حسبانه مفردات هذا الواقع لمجتمعه الذي نشأ فيه من حيث العدد والتشكيل والمساحة والموارد وخريطة التوزيع، واستيعاب ذلك مفاده أن يتنبأ بمستقبله؛ ليتخذ القرار المدروس تجاه تكوين أسرة في بيئةٍ مجتمعيةٍ مواتيةٍ لتطلعاته، يتوافر فيها مقومات الحياة التي تمكنه من تربية نشءٍ يُساهم في البناء ولا يُعد عبأً أو عالةً على المجتمع يتلمس المعونة من جهاتٍ رسميةٍ أو غير رسمية، بل يمتلك المهارة التي تفتح له مسارات العمل المتعددة بمجتمعه ليصبح منتجًا مساهمًا في بناء الدولة.
وتواجه التنمية الحضرية تحدي المشكلة السكانية، وهنا يتوجب على الأسرة أن تعي أهمية امتلاك الثقافة الإنجابية؛ فمن خلالها يستطيع الفرد أن يخطط لحياته الأسرية وفق قناعاتٍ ورؤيةٍ واضحةٍ، يأتي في مقدمتها توفير متطلبات إقامة حياةٍ زوجيةٍ يتحمل فيها الطرفان المسئولية التي تؤهلهم لرعاية نشءٍ جديدٍ من تربيةٍ وتعليمٍ ومسكنٍ مناسبٍ وملبسٍ ومأكلٍ ومناخ صحيٍ.
والوعي بالثقافة الأسرية يستدعي إدراك أهمية الرعاية الصحية قبل الزوج وبعده وأثناء الحمل وبعده لضمانة سلامة الأسرة وصحة الأطفال؛ بالإضافة للوعي بقضايا ما قبل الزواج من حيث درجة القرابة والأمراض الوراثية والممارسات الصحية السليمة من قبل الطرفين، وأهمية الفحوصات الطبية للمقبلين على الزواج.
كما أن هذا الوعي يرتبط بصورة مباشرة بالتنمية الاقتصادية التي تقوم على موارد بشرية تتمتع بالصحة والمقدرة على العطاء على المستوى البدني والفكري، ومن ثم تتكون العلاقات الاجتماعية التي تعضد فكرة الترابط والمواطنة في صورتها الصحيحة؛ حيث إن المجتمعات التي تعاني من تفشي الأمراض بصورها يصعب أن تحدث في أوطانها التنمية الاقتصادية في مسارها المستدام.
والتنمية الحضرية تستوجب أن تمتلك الدولة الرؤية المستقبلية للتطوير العمراني بها، ومن ثم تعمل على تطوير المواصلات ومواجهة التحديات الاقتصادية والسكانية والبيئية التي تحتاج لتنمية المستدامة، ومصر من الدول التي سارعت عبر مجهودات تنموية متواصلة اتبعت خلالها الدولة السياسات التخطيطية كي تواجه به التحديات والمشكلات السكانية المتواترة؛ حيث التزايد السكاني غير المحسوب الذي يتطلب آليات ووسائل إجرائية في مناشط الحياة المختلفة سواء على مستوى التعليم والصحة والأمن والاقتصاد والإسكان والوظائف، من قبيل الوفاء بالحاجات والتطلعات المجتمعية المستمرة والمتزايدة.
وقد كان هناك تحدي كبير واجه الدولة المصرية تمثل في انتشار العشوائيات، مما استدعي أن تتخذ القرارات والإجراءات التي قضت على هذه الظاهرة بشكل نهائي من خلال برنامج واضح للتنمية الحضرية عبر مشروعات الدولة القومية العملاقة التي ساهمت في إيجاد فرص العمل في ربوع الوطن سواء بالمدن المطورة للنهوض بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي للفرد والمجتمع، والحد من مسار الهجرة الداخلية، بالإضافة لإيجاد مجتمعات جديدة تقوم على الإنتاجية التنموية الصناعية منها والزراعية؛ لتصبح مركز لأسواق عمل تفي باحتياجات الوطن من ناحية وتقلل من البطالة وتستثمر الموارد البشرية من ناحية أخرى.
ومصر من الدول التي اتجهت نحو إقامة المدن الذكية والتوسع العمران واستغلال الظهير الصحراوي وتعميره ومده بالخدمات، ومن ثم عزمت بتوجيهات قيادتها الحكيمة على تدشين العديد من مدن الجيل الخامس، وهذه المدن روعي في تصميمها تدشين طرقٍ ومبانٍ ومساحاتٍ خضراءٍ ومرافقٍ متميزةٍ مدعومةٍ بالأنظمة الرقمية الذكية بما يتوافق مع التنمية الحضرية العالمية، كما قضت الدولة على صور الاختناقات المرورية التي نتجت عن التكدس السكاني من خلال التنمية الحضرية؛ حيث دشنت العديد من الطرق والكباري والمحاور التي ساهمت في القضاء على تلك المشكلة.
ورغم ما واجه التنمية الحضرية المصرية من معوقات جراء المشكلة السكانية؛ إلا أن الدولة عزمت بقوة تجاه توفير حياة الحضرية في صيغتها الجديدة بإيجاد مجتمعات ومدن تقوم على فكرة التنمية المعلوماتية، ومن خلال توظيفها يمكن تقديم كافة الخدمات التي يطلبها المواطن من أي مكانٍ وفي أي وقتٍ، وبالطبع يرتبط ذلك بقواعد بياناتٍ عالية الأمان وتطبيقاتٍ رقميةٍ ذات فعاليةٍ، وبدون شكٍ ينعكس ذلك على ما يبديه الفرد من رضًا وشعورٍ بالراحة والانشراح والسعادة والإقبال على الحياة.
فبالرغم من أن المشكلة السكانية والتنمية الحضرية تعتبر واحدة من التحديات الكبيرة التي واجهت الدولة المصرية؛ إلا أنها تمكنت من مواجهتها واستثمارها، من خلال مجموعة من السياسات والإجراءات المدروسة؛ فوجود قوة عاملة وفيرة يعد أكبر استثمار في كافة المجالات خاصة التربية والتعليم والتدريب والاقتصاد، مما ساهم في النمو الاقتصادي وتنويع الأسواق والقطاعات الاقتصادية، وتحسين الخدمات العامة والتخطيط الحضري العمراني والبنية التحتية والفوقية، والتفكير خارج الصندوق وإيجاد حلول وبدائل تكنولوجية جديدة لمواجهة التحديات، ومواكبة التغيرات التي تواجهها الدولة.
فالزيادة السكانية يمكن أن تكون مشكلة ومحنة بالاستسلام لها، ومنحة للنمو والتطور وفرصة لتحقيق التنمية الحضرية المستدامة، من خلال استغلالها والتعامل معها بذكاء وباستراتيجيات فعالة ورفع مستوى الخصائص الاجتماعية للمصرين؛ فالتحدي يكمن في كيفية استثمار الموارد البشرية المتاحة بشكل يعود بالنفع على المجتمع، وإتاحة التعليم المستمر المناسب للجميع، وتكافؤ الفرص وتحقيق العدالة والمساواة وتوفير برامج التوعية بكافة الوسائل المرئية والمسموعة، وتحسين مستوى الوعي حول القضايا السكانية، وتوفير برامج تدريبية لتنمية مهارات الشباب لزيادة قدرتهم على المنافسة والريادة في سوق العمل.
والاهتمام بتحفيز وجذب الاستثمارات في قطاعات جديدة تدعم النمو الاقتصادي وتوفر فرص العمل المختلفة، وتنمية الوعي نحو أهمية الشراكة في بناء الوطن؛ حيث باتت الأدوار معلومةً لدى الفرد والمجتمعات التي تنشد التقدم والنهضة والازدهار والتركيز على التنمية المستدامة لضمان استخدام الموارد بشكل فعال دون المساس بحقوق الأجيال الحالية والمستقبلية، والاهتمام بتعضيد النسق القيمي والمواطنة الصالحة المسؤولة التي تؤصل تعم الولاء والانتماء لتراب الوطن الذي نحيا به وفيه كرامًا آمنين مطمئنين، حفظ الله بلادنا، وهيأ لها الصواب والرشاد، ووفق القيادة السياسية لما فيه الخير للبلاد والعباد.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر