لعبت القاهرة دورًا محوريًّا في النهضة العربية منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، فكانت الحاضرة التي استوعبت طاقات الكثير من المبدعين العرب، فهاجر إليها المعنيون بالمسرح والصحافة والفنون والآداب،
لم تتأثر الثقافة بما عصف بالعالم العربي وحواضنه الثقافية من أحداث فحسب وإنما تعرّضت لما يشبه الزلزال الداخلي الذي أفضى إلى زحزحة مفهومها وتغيير أدواتها والمنتجين لها والشرائح التي تستهدفها. وقد تمثل هذا الزلزال في وسائل التواصل المتعددة والوسائط التقنية المختلفة، ولم تكن الثقافة التي أفرزتها هذه الوسائل والوسائط إضافة إلى الثقافة المؤسسة أو الثقافة التقليدية بمفاهيمها وأدوات والفئات المنتجة لها بقدر ما كانت زحزحة لها وطرحاً بديلاً يفتقر إلى العمق، ولكنه في الوقت نفسه يمتلك القدرة على الانتشار، بديل سهل يتصل بالحياة اليومية
وينأى عن القيم العليا للثقافة وما قدمه روادها عبر العصور من فنون مختلفة، لم يعد جمهور القراء يتداولون بينهم الحديث عن روايات نجيب محفوظ وقصائد الجواهري ومقالات العقاد ومغامرات تجربة مجلة «شعر»، أقصى ذلك الزلزال المتمثل في الوسائط ووسائل التواصل الثقافة الجادة وزادها عزلة ولم يعد ثمة نور يلوح في آخر النفق الذي وجدت نفسها فيه.
كما هاجر المؤرخون والمفكرون والسياسيون والمناضلون، لكن الأمر تغير مع النصف الثاني من القرن العشرين، فقد انتشرت الثورات العربية، وظهر العديد من المراكز الثقافية الأخرى بداية من الشام والعراق وبلدان الخليج حتى بلدان المغرب العربي، وتحوّلت القاهرة من مركز الجذب الأول إلى مركز تقليدي يحتفظ بعبق الماضي، لكنه لا يمتلك القدرة على منافسة المراكز الجديدة، فما الذي حدث؟ عدد من الكتاب المصريين والعرب
إنه أصبح معلومًا لأي راصد في الثقافة العربية الراهنة أن العقود الأخيرة، «شهدت تراجعًا خطيرًا للوجود المصري في المجتمعات العربية، بينما الأجيال الثلاثة في النهضة المصرية الحديثة (هي جيل رفاعة الطهطاوي، وجيل أحمد لطفي السيد، وجيل طه حسين) قد ربونا على أيديهم وكتبهم على أن العروبة ثقافة، ومن هنا لم يكن هؤلاء الرواد يتشددون في فكرة العروبة بالمعنى القومي الفني السياسي المعروف». تاريخ مصر هو تاريخ الحضارة الإنسانية حيث أبدع الإنسان المصري وقدًّم حضارة عريقة سبقت حضارات شعوب العالم.
حضارة رائدة في ابتكاراتها وعمائرها وفنونها حيث أذهلت العالم والعلماء بفكرها وعلمها، فهي حضارة متصلة الحلقات تفاعل معها الإنسان المصري وتركت في عقله ووجدانه بصماتها. لقد كانت مصر أول دولة في العالم القديم عرفت مبادئ الكتابة وابتدعت الحروف والعلامات الهيروغليفية، وكان المصريون القدماء حريصين على تدوين وتسجيل تاريخهم والأحداث التي صنعوها وعاشوها، وبهذه الخطوة الحضارية العظيمة انتقلت مصر من عصور ما قبل التاريخ
وأصبحت أول دولة في العالم لها تاريخ مكتوب، ولها نظم ثابتة ولذلك اعتبرت بكافة المعايير أُما للحضارات الإنسانية. إن لمصر دورها الحضاري والتاريخي والديني حيث كانت المكان الذي احتضن الأنبياء، والأرض التي سارت خطواتهم عليها، فجاء إليها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وتزوج من السيدة هاجر، وجاء إليها يوسف عليه السلام وأصبح فيها وزيرا وتبعه إليها أبوه يعقوب، ودار أعظم حوار بين الله عز وجل وموسى عليه السلام على أرضها،
وإلى مصر لجأت العائلة المقدسة السيدة مريم العذراء والسيد المسيح طفلاً ويوسف النجار وقاموا برحلة تاريخية مباركة في أرضها، وقد اختار الله سبحانه وتعالى مصر بالذات لتكون الملجأ الحصين الذي شاءت السماء أن يكون واحة السلام والأمان على الدوام وملتقى الأديان السماوية. لقد تتابعت على أرض مصر حضارات متعددة فكانت مصر مهدا للحضارة الفرعونية، وحاضنة للحضارة الإغريقية والرومانية ومنارة للحضارة القبطية، وحامية للحضارة الإسلامية. ولقد اتسم شعب مصر على طول التاريخ بالحب والتسامح والود والكرم الذي تميز به هذا الشعب حيث امتزج أبناء مصر في نسيج واحد متين. تمتلك مصر ثقافة عمرها آلاف السنين من التاريخ المسجل. كانت مصر القديمة من أوائل الحضارات في الشرق الأوسط وأفريقيا. ولآلاف السنين حافظت مصر على ثقافة فريدة من نوعها ومعقدة ومستقرة والتي أثرت على الثقافات اللاحقة في أوروبا. بعد الحقبة الفرعونية أصبحت مصر نفسها تحت تأثير الحضارة الهلنستية لفترة من الزمن ثم في وقت لاحق تأثرت بالثقافة المسيحية
تكالبت على العالم العربي جملة من الأحداث التي أفضت إلى تقويض دول عربية وساهمت في تقويض كثير من مؤسسات دول أخرى، وهو تقويض طال مؤسسات الدولة كما طال مؤسسات المجتمع المدني والتي كانت محصلة لنضال طويل المدى لترسيخ مفهوم المشاركة الوطنية في النهضة والتنمية على نحو مستقل وموازٍ لما تبذله الدول في هذا الشأن؛ وهذا ما أدى إلى تعميق حجم الخسارة التي عانت منها تلك الدول والشعوب العربية، ولم تكن للمؤسسات الثقافية أن تصمد حين تنهار المؤسسات الداعمة لها ولم يكن لها كذلك أن تصمد تحت وطأة فقدان الثقة في ثقافة لم تستطع أن تحول دون الكارثة التي شهدتها تلك الدول والمأساة التي انتهت إليها تلك الشعوب.
والحقيقة أن لمصر باع طويل في مجال الموروث الشعبي عموما بما يشمله من فروع غنية تحته، وهناك جهود متنوعة في حفظ وجمع وتوثيق هذا الموروث، ولكن المشكلة في علاقة الحالة المصرية باتفاقية اليونسكو ومفهوم التراث الثقافي غير المادي وتمثلاته ترجع في تصوري الشخصي إلى عدة جوانب:
– عدم الوضوح الكافي للإجراءات بالنسبة للآليات المعتمدة من الاتفاقية لعمل قوائم الحصر، والدخول للقائمة التمثيلية، وإدراج عنصر ما على قائمة “الصون العاجل”، بما يجعل البعض يتجاهل الاتفاقية، ولكن ذلك لغياب التعريف الكافي بتلك الإجراءات القياسية.
– غياب الوعي الكافي بأهمية التفاعل مع الوسط الثقافي الدولي من خلال اليونسكو، والحضور بقوة لما يمثله ذلك من فرصة لتوظيف والتأكيد على القوة الناعمة المصرية والعربية والإفريقية، خصوصا وأن معظم بنود تلك الاتفاقيات تتعرض للمراجعة والتعديل كل فترة، وبالتالي يمكن لمصر (مع المجموعة العربية والأفريقية وغيرهما) أن تعد خطة قصيرة الأجل للمشاركة، وخطة طويلة الأجل للتأثير في مفاهيم وبرتوكولات الاتفاقية وفق التصور المصري والعربي والأفريقي، ووفق طبيعة الحالة وظروفها الخاصة.
مصر تملك فرصة ذهبية للعودة للمشهد العالمي بقوة من خلال اتفاقية “صون التراث الثقافي اللامادي”، وتفعيل وجودها الناعم في المشهد الدولي بفاعلية عالية، فقط نحن في حاجة لبذل المزيد من الجهد في سبل حصر وجمع وتوثيق وإعادة فهرسة تراثنا الشعبي وفق توصيفات الاتفاقية، ثم علينا العمل لوضع عدة عناصر على قائمة الترويج العالمي للمفهوم والاتفاقية (القائمة التمثيلية)، وكذلك الدفع ببعض العناصر المعرضة للاندثار إلى قائمة “الصون العاجل”، ثم تكون الاتفاقية تكأة لحضور مصري وعربي وأفريقي موسع في المحافل الدولية، لتغيير الصورة النمطية للعربي والأفريقي لدي الغرب، والتأكيد على وجهة نظرنا في ظل التدافع الحضاري الدولي ونحن في خضم تشكل نظام عالمي جديد إقليميا ودوليا.
يمكن لدبلوماسية تبادل المزيج الثقافي التي طرحتها مؤخرا بالإضافة لتفعيل الحضور المصري في نطاق التراث الثقافي اللامادي واتفاقيته، أن يكونا مكونا هاما من رؤية ثقافية مصرية شاملة للحضور في المشهد الدولي والتأثير فيه، في ظل التدافع الحضاري الراهن وتعدد مراكزه المختلفة، وللتأكيد على قدرة مصر والمنطقة العربية والإفريقية على تقديم نموذج حضاري ثقافي محترم ورائد، يؤكد في الوقت نفسه على العمل المشترك القائم على الاحترام المتبادل وقبول التنوع والسماحة والمحبة، وأن الحاضنة الثقافية العربية والإفريقية وإن احتوت على أنماط سائدة ككل تمثلات الظاهرة الإنسانية، إلا أن هذه الأنماط السائدة تحترم بشدة مختلف الأنماط الأخرى وتقبل بحضورها وتحترم مظاهر هذا الحضور.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا