إن الدين الإسلامي رسخ مفهوم الكرامة بغض النظر عن اللون والجنس واللغة والعرق، وجعل العزة والكرامة حقًّا أصيلاً لكل إنسان، وهذا الشيء ثابت، ولا يجوز الانتقاص منه؛ لأنه شرف من الله للإنسان، وتكريم له. إن التعصب والعنصرية شيئان بغيضان ومنتنان، يسهمان في بث الفرقة، وينخران في جسد اللحمة الوطنية، ويفسدان المجتمع، ويفتان من عضده، ويجرانه نحو مستنقعات الجهل والظلام، ولهما آثار وخيمة، وعواقبهما سيئة. إن تجريم التعصب والعنصرية بأنواعهما وأشكالهما كافة يجب أن يعمل به، ويتم التعامل معه وتطبيقه بحزم.
لكل إنسان الحق في حرية التفكير والوجدان والدين. ويشمل هذا الحق حرية الإيمان بدين أو بأي معتقد يختاره، وحرية إظهار دينه أو معتقده عن طريق العبادة وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، سواء بمفرده أو مع جماعة، وجهرا أو سرا.. لا يحوز تعريض أحد لقسر يحد من حريته في أن يكون له دين أو معتقد من اختياره. إن العنصرية والتعصب داءان خطيران أشد من (كورونا)؛ كونهما يتنافيان مع كرامة الإنسان ومبدأ العدل والمساواة.
إن المؤسسات التعليمية يقع على عاتقها التصدي لهذا الداء من خلال وجود مناهج تعليم، تشدد على نبذ التعصب والعنصرية، وتوعية الطلاب والطالبات في كل المراحل الدراسية وحتى الجامعية بخطورة هذا الأمر وتجريمه، حتى ينشأ جيل واعٍ بعيد عن النعرات الطائفية والمذهبية، وحتى يتم القضاء على والتخلص من هذين البلاءَين الذميمَين.
إن كل مَن يمارس التعصب والعنصرية ويدعو لهما يجب أن يحاسَب ويعاقَب فرًا وبشدة؛ حتى يكون عبرة لغيره، وإلا فإن المشكلة ستكون قائمة دون حلول حقيقية وجذرية، ولاسيما ونحن في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبح من خلالها الانتقاص من الآخرين يحدث بسهولة ويسر، وبلا ضابط أو رابط.
إن العنصرية والتعصب مرضان يصيبان العقل، وينخرانه حتى يتبلد. إن العقليات الواهمة الزائفة التي أفرزت هذه المفاهيم البائدة على مر السنين قد أحدثت شرخًا كبيرًا في المفهوم الإنساني وطرق التعايش والتفاهم بين الناس وفق مبادئ العدل والمساواة التي نادى بها ديننا الإسلامي الحنيف المرتكز على أن الجنس البشري واحد، يسكن كوكبًا واحدًا، ومرتبط بمصير مشترك واحد.
إن بلادنا -حفظها الله- جسدت المعايير الدينية والدولية لحقوق الإنسان، ودعت في كل المحافل الدولية والإقليمية لتثبيت هذه المعاير، وأسهمت إسهامًا فعالاً ومكثفًا في هذا الشأن؛ حتى يعيش الناس في كنف العدل والمساواة بعيدًا عن مهاترات العنصرية، ولغو التعصب.
وقد ظهرت العنصرية منذ خلق الله الحياة على هذه الأرض، وتعد أحد أسباب الفتنة، وأبرز أسباب الحروب والتفرقة، وهي من أشد الأمراض فتكا بالمجتمعات، ولم يخل منها أي عصر من العصور. ولا شك أن أبرز مثال على العنصرية هو تجارة الرقيق التي مارستها بعض الدول أو المجتمعات على ذوي البشرة السوداء في فترات مختلفة من التاريخ البشري، فجعلت منهم عبيدا بلا سبب إلا للاختلاف في اللون. أما اليوم، فإننا نعيش عصرا جديدا للعنصرية المتفشية في أشكال وقوالب مختلفة، تارة تغطيها التكنولوجيا، وتارة تحميها حقوق الإنسان، وأخرى تبررها مظاهر العولمة وإفرازات التقدم ودواعي العصرنة. ولأن هذا الوضع واضح للعيان ويعيشه البشر في كل مقام ومقال، في المدارس والملاعب وساحات العمل،
فإننا لن نتجه إلى شرح أو تفسير مظاهر وأشكال العنصرية التي تفشت في كل المجتمعات الغربية منها وأيضا العربية والإسلامية، وإنما سنتجه إلى تبيان كيف نعالج هذه الآفة الخطيرة كمسلمين، ونعرف كيف عالجها الإسلام في السابق وكيف هي الآن. وقبل ذلك نطرح السؤال هل نعاني من العنصرية؟ أم أننا نحن أنفسنا عنصريون؟ وفي وقت أصبحت فيه مناهضة العنصرية في الملاعب الأوروبية مثلا تعد بطولة وشهامة وموقفا يذكر لصاحبه كما لو كان إنجازا لا مثيل له، يجب أن نعترف أننا نسينا أو تجاهلنا أن الإسلام أول من حارب العنصرية وعالجها وطرح خططا للقضاء عليها.
لا تنبع التفرقة العنصرية من البشرة بل من العقل البشري، وبالتالي فإن الحل للتمييز العنصري والنفور من الآخر وسائر مظاهر عدم المساواة ينبغي، أولاً وقبل كل شيء، أن يعالج الأوهام العقلية التي أفرزت مفاهيم زائفة، على مر آلاف السنين، عن تفوق جنس على آخر من الأجناس البشرية. ففي جذور هذا التعصب العرقي تقبع الفكرة الخاطئة بان الجنس البشري مكون من حيث الأساس من أجناس منفصلة وطبقات متعددة، وأن هذه الجماعات البشرية المختلفة تتمتع بكفاءات عقلية وأخلاقية وبدنية متفاوتة تستوجب أنماطاً مختلفة من التعامل.
والحقيقة أنه لا يوجد سوى جنس بشري واحد. فنحن شعب واحد يسكن كوكباً واحداً: نحن أسرة بشرية مرتبطة بمصير مشترك ومرهونة بأن “تكون كنفس واحدة”.
إن مبدأ وحدة العالم الإنساني يضرب وتراً حساساً في أعماق الروح. فهو ليس مجرد طريقة للحديث عن مثاليات للتضامن. ولا هو مجرد مفهوم غامض أو شعار. ولكنه يعكس حقيقة أبدية، روحية، أخلاقية ومادية تبلورت خلال عملية بلوغ الجنس البشري مرحلة النضج في القرن العشرين. هذه الحقيقة أصبحت أكثر وضوحاً اليوم لأن شعوب العالم أصبح أمامها طرق كثيرة لتدرك إعتماد عنصر كل منها على الآخر وتصبح مدركة لتحقق وحدتها الحتمية.
إن استيعاب فكرة الوحدة الكلية للجنس البشري يتأتى بعد عملية تاريخية تحوّل خلالها الأفراد إلى وحدات بشرية أكبر. فمن عشائر إلى قبائل، ثم إلى دويلات وأمم، ثم إلى اتحادات وروابط دول، يصبح من الطبيعي أن الخطوة التالية هي خلق حضارة عالمية متنوعة، وموحدة في الوقت ذاته.
من أهم المشكلات التي تواجهها الحياة الاجتماعية قديما وحديثا هي مشكلة العنصرية التي تعني التفرقة بين البشر بحسب أصولهم العرقية، وألوانهم، وقبائلهم، ومن ثم تنشأ العصبية التي تحامي عن كل ذلك، وقد كان لهذا السلوك أثر واضح في إثارة الفتن عبر التاريخ، وإشعال نار الحروب. لقد كان من مبادئ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مكاشفة قريش التي تغلغلت فيهم العصبية بأنه مبعوث عالمي، لا تؤطره القبيلة، ولا تحده العرقية، لقد أخبرهم بطبيعة الرسالة التي جاء بها، وأنها تتجاوز الأعراق، واللغات، والألوان، فهي فوق الفوارق الطبقية، والحدود الجغرافية.
لقد كان هذا الإعلان الحقوقي الشهير يتنزل على نفوس الحاضرين وهم يرسمون لوحة الاجتماع والوحدة الإسلامية بأبهى صورها، القبائل العربية، والوفود القادمة من غير بلاد العرب، لقد كان هذا الخطاب وقريش حاضرة بكل بطونها وعشائرها، ونفوسهم مسلِّمة لهذا الخطاب الإسلامي الذي أنقذهم من الحروب، وطوى صفحة بائسة من الصراعات التي كانت تدوم لعقود بسبب أن خيلا تعثرت في سباق مع خيل لقبيلة أخرى، لقد عملت فيهم تعاليم الإسلام عملها طوال فترة الدعوة، فذابت في نفوسهم كل معاني الجاهلية، ودعوات العصبية، حتى ختمت تلك المسيرة المباركة في حجة الوداع بهذا الميثاق الإنساني الذي لم يشهد العالم أرقى ولا أعدل ولا أصدق منه. يشهد العالم المعاصر اليوم في ظل التطور الحضاري وانفتاح الفضاء، تزاوج الأفكار وتلاقح العقائد الإنسانية على اختلاف توجهاتها، ولذلك تتعالى الأصوات المطالبة بضرورة احترام الإنسان وصيانة كرامتة على اختلاف الجنس واللون والدين، مما كان له الأثر على الوقع الإسلامي.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا