لم أكن أتوقع يوماً أنني سأجد نفسي محاصراً بهذا الكم من الوحدة. وحدتي لم تكن اختياراً، بل فرضت عليّ فرضاً، وجعلتني أشعر كما لو أن العالم بأسره قد أدار لي ظهره، حتى أصدقائي الذين ظننت أنني سأجد فيهم عوناً. كم كنت مخطئاً! لقد فهمت أخيراً تلك الكلمات التي كتبها فريدريك نيتشه: “أيتها الوحدة، أنتِ وطني.” لم تكن مجرّد عبارة؛ كانت حقيقة لاذعة، حقيقة وجدتُ نفسي أتنفسها مع كل شهيق، وأحترق بها مع كل زفير.
ثلاثون عاماً من العطاء، ثلاثون عاماً من التضحية والجهد والإخلاص، لينتهي بي الأمر إلى كومة من الإحباط والألم الجسدي. حادثة سير غادرة “حادثة شغل” جعلتني جسداً يحمل عاهة مستديمة: كسران مزدوجان في الفخذ، مشدودان بقطعة حديدية بطول ستة وثلاثين سنتيمتراً، ومثبتة بستة عشر مسماراً حديدياً طبياً. كنتُ أواجه الألم كل صباح، وأتجرع مرارة الخذلان كل ليلة، وكأن القدر قد قرر أن يسخر مني، أن يسلبني كل شيء دفعة واحدة.
وفي عشية وضحاها، وكأن الأمر لعبة في يد القدر، وجدت نفسي موقوفاً عن العمل، بلا دخل مادي، بلا راتب شهري، وبلا أي دعم سوى من ثلة من الأصدقاء الذين لم يتخلّوا عني، أولئك القلائل الذين كانوا لي سنداً، ووجدت فيهم معنى الأخوّة الحقيقية. كأنني كنت عالقاً في عالم ظلامي، كل شيء من حولي كان قاتماً، كأنني أعيش في دوامة لا نهاية لها، عالم من الخذلان والقهر والظلم الذي تجسّد في صورة شخص واحد ينتمي للمجتمع وبعيد عن مجالي المهني اسمه “إدريس السادي” المنتقم الخفي. هذا الظالم السادي الذي قرر أن يسلبني كل شيء، أن يجرّدني من كل ما أملك، وكأنني كنت دُمية في يديه، يحرك خيوطي كما يشاء.
لكنني لم أكن دمية، ولم أكن مستعداً للاستسلام. نعم، مررت بلحظات كنت فيها على حافة الانهيار، أفكر في السفر بعيدا، في التخلص من كل شيء، في الانتحار القسري، كأنني كنت أغرق في بحر من الأفكار السوداء، وكنت أقف عند حافة الهاوية، أنظر إلى القاع، أرى الظلام يمتد إلى ما لا نهاية، وكان جزء مني يريد أن يصرخ، أن يهرب، أن ينهي كل شيء. ولكن، كيف لي أن أفعل ذلك؟ كيف لي أن أسمح لأولئك الظالمين أن ينتصروا بروايتهم الملفقة عني.
تخيلوا، لو أنني استسلمت لتلك الأفكار، كيف كانوا سيصفونني بعد موتي؟ كانوا سيقولون إنني مختل نفسياً، أو مفلس مادياً، أو مشوش اجتماعياً. كانوا سيحملونني في تلك السيارة الباردة، المكتوب عليها “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، ويدفنوني في قبر منسي، ويكتبون النهاية على قصة لم يفهموها، لأنهم ببساطة لم يعيشوها. لكنني رفضت أن أكون مجرد سطر في دفترهم الأسود. كما قال الكاتب الفرنسي ألبير كامو: “لإنسان يخلق معناه في مقاومته للعبث”. وأنا قررت أن أقاوم الظلم، أن أحيا لأجل زوجتي وأبنائي الصغار.
كان لدي خياران: أن أترك الظلم يلتهمني، أو أن أواجهه بكل جرأة وشجاعة. اخترت الخيار الأصعب، أن أواجهه وأنا وحدي، بلا دعم، بلا سند، سوى الإيمان في داخلي. لقد بدأت أكتب، أملأ دفاتري بالكلمات، أفتح نوافذ العقل على مصراعيها، أقرأ، أتعلم، أبحث في الكتب عن ما يضيء لي طريقي. بدأت أرى في الحروف طوق نجاة، في الكلمات سلاحاً، وفي الأفكار حريتي. كما قال الكاتب الفرنسي مارسيل بروست: “الكتب هي الجبال التي نتسلقها لنرى العالم من أعلى.”
لم أعد أنتظر شيئاً من هذا العالم، إلا أنني أعيش يومي، أتعلم من كل لحظة، وأدرك أن القوة الحقيقية تأتي من الداخل، من قراري بأن أنهض، حتى لو لم يبق أحد بجانبي. كلما شعرت بالضعف، كنت أتذكر قول الشاعر البرازيلي باولو كويلو: “عندما تريد شيئًا، فإن الكون بأسره يتضافر ليساعدك على تحقيقه”. وأنا أريد حقي، أريد كرامتي، أريد أن أكون حراً. لهذا السبب، سأبقى واقفاً، سأبقى أكتب، سأبقى أتنفس، لأن الحياة، رغم كل شيء، تستحق أن تُعاش، وتستحق أن أقاوم من أجلها.