في كل الصنائع هم الأولون، وفي كل البدائع هم السابقون، وإن المرء العالم العربي المسلم في سالف العصر، كان يحمل من حقائب المعرفة فنوناً عدة، فإذا بحثت عن معشر الأطباء المسلمين في الزمن الغابر، تجدهم في ذات الوقت صيادلة، فلكيون، رياضياتون، مهندسون ، كيميائيون، فيزيائيون، مؤرخون، فلاسفة، فقهاء، أدباء، شعراء، وليس هذا من مزاعم التهويل، بل هي شهادة حق من الذين انبثقوا من أرحام البيئة الغربية، فيقول المؤلف الأمريكي بريفولد:
ليس ثمةَ مظهر واحد من مظاهر الحضارة الأوروبية إلا ويعود فيه الفضل للمسلمين بصورة قاطعة…
وحسبه أن يكون التألق والتأنق الفردي في ثوب كمي وكيفي ، علمي وعملي…
والنبوغ العربي والإسلامي في الماضي كان يمضي في مسارين عجيبين حقاً، تعدد علمي ومعرفي داخل الإطار الفردي الذاتي، وتنوع إبداعي تكتلي في كل مجال علمي…
فلم يقتصر الإبداع الطبي على ابن سينا وابن النفيس والرازي والزهراوي، وإن كانوا هم ذروة سنام علم الطب أبد الآبدين…
فنُسج على منوالهم ابن زهر الأندلسي مكتشف جرثومة الجرب، وصاحب كتاب [ التيسير في المداواة والتدبير ] …
وقد كانت البيمارستانات الطبية التي أنشأها الملوك والأمراء في ربوع العالم العربي والإسلامي، مضخة فياضة بالأوعية البشرية الحية في ميدان الطب مسلكاً وسلوكاً….
ولا سيما البيمارستان النوري، الذي أنشأه نور الدين محمود، والذي خرج منه ابن أبي أصيبعة، صاحب المعجم الفريد [ عيون الأنباء في طبقات الأطباء ] الذي يشتمل على خمسة عشر باباً، ويسرد تراجم أربعمائة طبيب في العالم….
كما برع في آفاق الطب العالمي، العربي الإسلامي القيرواني ابن الجزار، صنف ابن الجزار القيرواني العديد من المصنفات والكتب المتنوعة، فله في كل بستان من المعرفة كتاب طيِّب الأثر، غزير المنفعة، ذكر الذهبي بعض مصنفاته فقال: “وله كتاب (زاد المسافر في علاج الأمراض)، وكتاب في الأدوية المفردة، وكتاب في الأدوية المركبة يعرف (بالبُغية)، وكتاب ( العدة) وهو كتاب مطوَّل في الطب، و (رسالة النفس) وأقوال الأوائل فيها، وكتاب (طب الفقراء)، ورسالة في التحذير من إخراج الدم لغير حاجة، وكتاب الأسباب المولِّدة للوباء في مصر بطريق الحيلة في دفع ذلك، وكتاب المدخل إلى الطب سمَّاه (الوصول إلى الأصول)، وكتاب ( أخبار الدولة وظهور المهدي بالمغرب” …
وشجرةُ الطب العربي والإسلامي ظلت وارفة بظلالها عقد بعد عقد، فها هم أغصان من أغصانها، أبو الفرج بن هندو، وابن الأكفاني، وسنان بن ثابت بن قرة، وداوود الأنطاكي، وابن كشكاريا، وابن هيدرو الطبيب المغربي الذي كان له قصب السبق في اكتشاف الطاعون والكوليرا والأمراض الوبائية، وله كتاب بديع في هذا المضمار [ المقالة الحكمية في الأمراض الوقائية ] ..
وابن جزلة، ذلكم الطبيب المصري مؤسس الطب السريري، وصاحب المؤلفات الطبية اليافعة [ تقويم الأبدان في تدبير الإنسان ] [ الإشارة في تلخيص العبارة ] [ كتاب أمراض الرأس ] [ رسالة في مدح الطب وموافقته للشرع ] وقد كانت له ديباجة من المأثورات الطريفة في علاج المرضى والتخفيف من روع آلامهم، تلك التي ربطها بأهمية الموسيقى في شفاء الأمراض والوقاية منها، فقال في هذا الشأن: <<إن موقع الألحان من النفوس السقيمة مثل موقع الأدوية من الأبدان المريضة…