لا يختلف اثنان من أبناء أرض الكنانة علي أن بلادنا تواجه تحديات جمة أسهمت في صنعها متغيرات عديدة ومتتابعة..
كما أن هناك ملفات تتطلب معالجات عملية ورؤي استراتيجية مغايرة وشراكات فاعلة لجميع أبناء الوطن،ويجب أن نثق في قدراتنا علي تجاوز كل الصعاب وعثرات هذه المرحلة وصناعة الأمل في غد أفضل وإضافة لبنة جديدة للبناء،وتجنب أراجيف المتفرجين،الواقفين طوال الوقت علي النقيض ،واعتادوا الصيد في الماء العكر ،وتأجيج الشائعات وبث روح اليأس والقنوط!.
وانطلاقا من المنهجية العلمية والأعراف المجتمعية فدائما الانطلاق من التوصيف السليم للمشكلات ودراسة كافة أبعادها وإدراك مسبباتها هو السبيل الأمثل للتوصل لحلول واقعية وقابلة للتطبيق ،بعيدا عن التهوين،أو التهويل.
وقد شهدت الأيام الأخيرة حالة من الحوار والنقاش المجتمعي حول تكاليف نفقات المعيشة لأسرة متوسطة في الوقت الراهن، وهو حق مشروع للمواطنين دون مزايدة أو التقليل من أهميته أو مبالغة وفي إطاره الوطني ،ونسقه الاجتماعي ،بحثا عن حلول ومقترحات إيجابية تسهم في تخفيف الأعباء عن المواطنين والتكيف الإيجابي مع المستجدات الحياتية.
وقد أمسي هذا الملف علي قائمة الملفات المؤرقة لكل الأسر المصرية ،وبطبيعة الحال يستثني من هذه القاعدة فئة محدودة لا تبالي بمثل هذه المناقشات ،ومن بينها طبقة المحتكرين والمنتفعين من بعض رجال الأعمال وصناع الأزمات الذين أسهموا في تعميق جراح المصريين في هذه القضية بممارساتهم الاحتكارية وإخفاء السلع الاستراتيجية والغذائية بكافة أصنافها ،وتعمدهم افتعال أزمات متتالية.. والمحصلة النهائية تنتهي في صالحهم في صورة أرباح طائلة تصب في جيبوهم ،دون إدراك لمغبة وعواقب هذه الممارسات غير المشروعة وتأثيراتها علي الحاضر والمستقبل.
كما تأتي تداعياتها المؤلمة وانعكاساتها الاجتماعية والنفسية لدي فئات الطبقة محدودة الدخل ومتوسطة الدخل بغرس عدم المصداقية وغياب الثقة،والنظر للمستقبل بتوجس وقلق شديد والشك في تحقيق بعض التطلعات والأحلام المشروعة واستيفاء احتياجات المستقبل مع تزايد فاتورة الاحتياجات الطبيعية الأساسية للمعيشة ،ومتطلبات التعليم والزواج والعلاج وغيرها.
ومن بين مردودات هذه الحالة المستعصية من الاستغلال والمبالغات والتجاوزات في تقدير هوامش الربح العادلة لمختلف السلع والخدمة، انعدام الثقة المجتمعية، وإجهاض جهود الدولة في معالجة آثار المتغيرات الإقليمية والأممية.
وفي إطار هذا الحوار المجتمعي الذي يفتقد أسس الدقة والموضوعية كثر الجدل والمراء عبر منصات التواصل حول هذه القضية شائكة الأبعاد..
وقد هاجت الدنيا وماجت علي د.روضة حمزة مدرس الاقتصاد المنزلي بجامعة حلوان ،بعد تصريحاتها بأن مبلغ 3000 جنيه مصري تكفي احتياجات أسرة كاملة لمدة شهر وبأغلبية متطلباتها الأساسية !.
وخرجت د.روضة علي إحدي الفضائيات تبرر اسباب ما صرحت به وتفند فحوي ما قالته، وخلصت بأنها مجرد مقترحات وأفكار قد تفيد في تدبير وإدارة نفقات الأسرة محدودة الدخل ، وأنها لا تقصد التعميم علي كافة فئات المجتمع..
وأتصور أن د. روضة قد جانبها الصواب في حساب تكلفة نفقات المعيشة أو مجرد تقدير لتكلفة “الأكل والشرب”فقط والتي ربما تزيد عن ضعفي هذا المبلغ، وفقا لأسعار السلع الحالية.
وانطلاقا من دوره المجتمعي الرائد ،اعتقد أن من واجب الاستاذ الجامعي المتخصص
تقديم رؤية شاملة ودقيقة متكاملة الابعاد لكافة المشكلات بموضوعية وتجرد،دون محاولة لطرح القضايا في إطار غير دقيق،بعيدا عن الواقع الذي يعيشه المصريون.
وبصفة عامة أتصور أن الاشتباك مع المشكلة وتقديم الحلول والبدائل هو السبيل للخروج من هذه المرحلة بأقل الخسائر ،أما تجاهل ابعاد الأزمة فهو أمر يفتح الطريق لعلامات الاستفهام دون جدوي ولا يصب في صالح الوطن والمواطنين.
ولكي نضع أيدينا علي مفاتيح المشكلة والحل ، يجب أن نتفق أولا أن خطة حساب تكاليف المعيشة ونفقات الأكل والشرب وغيرها تختلف من أسرة لآخري وفقا لعدد الأسرة ومستواها المعيشي المعتاد ، والذي يحدده معدل دخل الأسرة علي وجه الإجمال، وليس هناك أرقام محددة بإمكاننا تحديدها علي وجه الدقة وإنما مؤشرات تقريبية تخضع للزيادة والنقصان والتغير المستمر.
كما يجب أن نعترف أن نفقات المعيشة تضاعفت مرتين وربما أكثر ،وهو أمر منطقي تماما نتيجة لاعتبارات عديدة علي رأسها:
المتغيرات الاقتصادية وتحرير سعر الصرف أكثر من مرة ، وما تبعه من انخفاض قيمة الجنيه وموجات من التضخم، وزيادة أسعار البنزين والمحروقات ،وزيادة تكلفة الإنتاج الحيواني نتيجة لارتفاع أسعار الأعلاف وأيضا تزايد تكلفة إنتاج المحاصيل الزراعية ومختلف السلع والخدمات.
كما أسهمت كثرة الحلقات الوسيطة ودخول الكثير من المستغلين وتجار الجملة للتحكم في البورصة السلعية في تضخيم الأزمة ،علاوة علي السلوكيات الخاطئة المعتادة للكثير من الأسر المصرية البعيدة عن فكرة الترشيد وتحديد الأولويات وتوظيف الدخل المتاح للتعايش مع الحياة بما تفرضه هذه المتغيرات.
ولو عدنا قليلا للوراء قبل عشرة أعوام أو أكثر ،فسنجد أن هناك تباينا كبيرا لدي كافة الأسر المصرية بكافة فئاتها في وضع خريطة لنفقات المعيشة بما تتطلبه من مأكل ومشرب ونفقات ملابس ومواصلات وعلاج ومصارف مدراس وغيرها من بعض النفقات الترفيهية كالفسح والنادي والمصيف والرحلات وغيرها، فهذا الاختلاف هو أمر طبيعي تماما.
ومابين الامس واليوم فقد تزايدت النفقات نتيجة لمتغيرات عديدة،ومن الكياسة إعادة هيكلة خريطة النفقات والبحث عن بدائل لزيادة الدخل أو ترشيد بعض النفقات، فالجميع في قارب واحد لتجاوز هذه المحنة..
وقد شرعت الدولة مؤخرا في اتخاذ تدابير وإجراءات وانتهاج سياسات جديدة لمراجعة خطط الإصلاح الاقتصادي وبرامج القروض مع البنك الدولي وأرجأت اتخاذ قرارات جديدة.
وهي خطوة يجب أن يتبعها خطوات أخري، كما تم إقرار قانون جديد للضمان والحماية الاجتماعية.
ووفقا لرؤي السياسين والخبراء فالقانون إضافة نوعية لمنظومة الحماية الاجتماعية ويعكس توازنا بين تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين وتعزيز قدرتهم على المشاركة في بناء الاقتصاد الوطني.
كما أنه خطوة محورية ضمن جهود الدولة المصرية لتحقيق العدالة الإجتماعية وتوفير الحماية اللازمة للفئات الأكثر إحتياجا والفئات الأولى بالرعاية، من خلال تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، بما يضمن وصول المساعدات إلى مستحقيها بأكبر قدر من الكفاءة والشفافية ،ويتوافق مع أهداف التنمية المستدامة ورؤية مصر 2030، خاصة في محوري القضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية .
كما يرون أن تطبيق القانون بشكل فعال سيعزز الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وسيسهم في تعزيز الشعور بالانتماء والمسؤولية المجتمعية ويدعم مفهوم الاستدامة والتمكين الإقتصادي.
ويبقي عالم “الموظفين” في الجهاز الحكومي في مأزق ودوامة يحاول الخروج منها ،وهم أكثر المتضررين نتيجة للتداعيات السالفة، وقد اتخذت الحكومة سابقة لزيادة الرواتب وتوفير حماية اجتماعية ،واتصور ضرورة إقرار حزم جديدة وزيادات كريمة وعادلة تضارع أو تعوض حجم الزيادة المطردة في السلع والخدمات وخاصة بعد تقلص حجم الجهاز الإداري..
ويأمل المواطنون في إيجاد حلول عملية نحو ضبط وتحجيم فواتير الكهرباء والغاز والانترنت والمياه وغيرها.
كل المؤشرات تؤكد أنه في الإمكان أبدع مما كان .. وبالتكاتف الوطني بين أفراد الشعب ورجال الأعمال المخلصين والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني علاوة علي جهود الدولة نستطيع إحداث استقرار في الأسواق وتخفيضات فعلية في مختلف أسعار السلع وفقا لسعرها العادل وتحقيق هوامش ربح مقبولة بعيدا عن هذه المبالغات..
كما أن هناك مقترحات وافكار في هذا الشأن منها أسواق اليوم الواحد،ومساهمة رجال الأعمال والأحزاب في دعم معارض الغرف التجارية ومبادرات حياة كريمة وغيرها..
وهناك دعوات كي تعيد السلاسل الغذائية عروضها الخاصة وتقديم تخفيضات كبيرة كسابق عهدها.
ومعين الأفكار في هذا السياق لن ينضب طالما توافرت إرادة جماعية للحل والإنجاز.
وبإرادة الإصلاح يمكننا تجاوز هذه الفترة الحرجة من عمر الوطن والانطلاق بصورة فعلية نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة..وإنا لقادرون بإذن الله.