عندما يستشعر الفرد طبيعة ما حوله، ويستمتع بما يقوم به من عمل أيًا كان نوعه، ويمارس أنشطته المعتادة داخل إقامته، وخارجها، وفي مؤسسته، أو المنشأة التي ينتمي إليها، أو في أي ميدان من ميادين العمل، وعبر ذلك ينتابه السرور، وانشراح الصدر في كل ما يقوم به، أو بعضًا منه؛ فإننا نجزم حين يتحقق ذلك بأن لديه تذوقًا، يجعل إحساسه بالجمال عالٍ، ويتأكد لديه بأن جمال مفردات الحياة ينبغي أن تُعاَشُ على نحوٍ مرضٍ.
ولذلك فإن مهمة التربية، وما بها من مداخل متباينة تقوم على فلسفة الفنون التي تغذي الوجدان أن توقظ في الإنسان الإحساس بقيمة التذوق، وهنا نتجنب ما يهدر تلك القيمة بمزيد من حقن الأذهان؛ بل نغذيها بقدح تلكم الأذهان؛ فتتفتح مزاهر الإعجاب، والدهشة؛ ومن ثم تنمو قيمة التذوق، الذي يُسهم في بلوغ الفرد مراحل الإبداع، وهذا من مفاضل رعاية الوجدان، وإحدى طرائق تغذيته لقيمة من قيمه الرئيسة التي يتحلى بها.
إن الجفاء لا يتوالد عنه ما نود أن يصل إليه الإنسان من حالة تمازج مع مكونات الطبيعة من حوله، وما علينا إلا أن نهتم بإرواء الوجدان، وتغذيته بما يجعله قادرًا على أن يحب ما يعمل؛ كي يصل إلى عمق الظواهر، ومكنونها، ويستمتع بكل مرحلة يتذوق من خلالها ألوان المعارف، والمهارات، ويدرك مدى أهميتهما في بناء خبرة وظيفية تجعله متمكنا، ويستفيد منها، ويفيد الآخرين من حوله.
والتذوق يحوي في طياته المادي، والمعنوي؛ حيث إن الشعور لدى الإنسان داخليًا؛ لكن مؤشرات رصده قد تكون ملحوظة في كثير من الأحيان؛ فما أجمل من أن يستمتع كل منا!، ويُسَرُ بما يقوم به، وما أرقي أن نتجاوز حدود المنفعة الخاصة! إلى الوصول للمنافع العامة، التي تضفي على طبيعتنا جمالًا فوق جمال، وسحرًا يربو عليه سحرًا؛ فكم تشتاق الأنفس، والعيون لأن ترصد، وتطالع كل جميلٍ حولها.
إن التذوق، والإحساس بالجمال ينقل الإنسان من مرحلة الإنهاك، والتعب لمرحلة المتعة، والشغف، وهذا ما يتوجب أن ننتبه له عبر ما نقدمه لأبنائنا من مهام يؤدونها، وما يقومون به من أعمال، سواءً ارتبطت بدراستهم، أو بحياتهم المعيشية؛ فقد ثبت أنه رغم الجهد المبذول؛ إلا أن متعة الذوق تخفف من وطأة هذا النصب الذي أظن أنه سيزول بمجرد رؤية جمال المُخرَج، أو ما نسميه المُنتَج.
تعالوا بنا نتفق على أمر يساعدنا في غذاء تذوق الوجدان؛ ألا وهو تربية النشء على الجمال بصورة مقصودة؛ وذلك من خلال تنمية مواهب كامنة لديهم، قد يكون منها الرسم، والموسيقى، والشعر، ونسج قصص الخيال، ومطالعة الطبيعة الخلابة، وغيرها من الأشياء التي يتزود منها الإنسان ملامح، ومقومات الجمال، ومكوناته؛ فيبتهج نظره، وتسعد روحه، ويُروى وجدانه؛ ومن ثم ينمو التذوق لديه.
ويُعد التفكيرُ أحد المنابع العذبة، والنديَة التي تغذي تذوق الوجدان؛ فمن خلال تنمية مهارات التأمل، ومن خلال ممارسات مهارات الابتكار، وصقل المقدرة على الإنتاجية يتسبب في تتدفق طلاوة تذوق الجمال في كل ما نؤديه؛ فتصير اتصافًا، لا تفارق الإنسان في كافة مناشطه، ومتعه؛ فالأمر بات مألوفًا، وأضحت العلاقة قوية بين شعور التذوق، وإحساسه، والسلوك التلقائي لدى الفرد.
ونود الإشارة إلى أن قيمة التذوق تقود الإنسان إلى التمسك بالذوق في صورته العامة؛ حيث إن ثياب السلوك الراقي الذي يعبر عن صاحبه، ويجعله حسن المعاملة، وطيب السيرة يراعي مبادئ، وقيم، وأخلاق، وهوية مجتمعه دون مواربة، بل ويحرص على أن يبدى احترامًا للعادات، والتقاليد لمجتمعه، وللمجتمعات الأخرى؛ فيتعامل في مكانه، وغير مكانه بصورة تزينها اللياقةُ، والأدب الجمُّ، والتقديرُ للآخرين.
ما أجمل التذوق! الذي نرويه، ونغذيه منذ المهد؛ فنحسن التربية، ونحصد ثمارها اليانعة في سلوكيات غابت كثيرًا عن أعيننا، وما أحوج فلذات أكبادنا! لمن يقوم بهذه المهمة العظيمة في مؤسساتنا التربوية، والاجتماعية، والعقدية، وعبر آلات الإعلام الهادف؛ كي تتضافر الجهود في بناء إنسان يحمل بين جنباته الرقي، والتقدير، والاحترام، ويرى كل ما حوله بعين جميلة تعزز لديه وجدانًا معطاءً.. ودي ومحبتي لوني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر