لا تمتلك المقاومة الفلسطينية السلاح الذي يمتلكه العدو، ولا تتوفر لها القدرات الاقتصادية والتكنولوجية واللوجستية التي تتوفر للعدو، لكنها تمتلك الحق الذي يمنحها القوة والقدرة، واليقين الكامل بأن النصر حليفها بإذن الله، والتفاؤل العظيم بأن المستقبل لها مهما كانت التضحيات، يموت المقاوم ورأسه مرفوعة لأعلى، ينطق بالشهادتين مبتسما، مؤمنا بأنه ذاهب إلى جنة الخلد، بينما يفر العدو خشية الموت، وإذا مات يموت مرتجفا هلعا، يعرف أنه ذاهب إلى الجحيم.
هذا هو مبعث القوة الذي تستند إليه المقاومة في معركتها، وفي صمودها الأسطوري منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى اليوم، وقد وضعت نفسها بين خيارين لا ثالث لهما؛ النصر أو الشهادة، وكلاهما شرف لها ولأمتها.
المقاوم الحق يقاتل في سبيل الله والوطن، وجندي العدو يقاتل في سبيل الطاغوت، سبيل نتنياهو وسيموتريتش وبن غفير وأشياعهم من اليمين المتطرف، ومن يحارب في سبيل هؤلاء ضعيف جبان خائر القوى، وقد جاء في تصنيف إسرائيل لضحاياها في حرب غزة أعداد لمنتحرين ومصابين بخلل عقلي ألحقوا بمستشفيات للعلاج النفسي، وهاربين من الجيش رافضين الذهاب إلى غزة، لأنهم يعرفون مصيرهم هناك، أما القتلى فليسوا كلهم بيد المقاومة، هناك من مات من الرعب، ومن مات بسكتة قلبية، ومن قتله زميله خطأ وسط البلبلة والخوف.
ورغم التفاوت الكبير (الطبيعي) بين المقاومة وجيش الاحتلال في حجم الضحايا إلا أن المحللين الإستراتيجيين لا يصدقون الأرقام التي تعلنها إسرائيل عن ضحاياها في الحرب، ويرون أنها لايمكن أن تقول الحقيقة كاملة، لأن معركتها متعددة الأبعاد وتفرض عليها الكذب، فهي معركة مع الرأي العام الإسرائيلي في الداخل حتى يدرك بطولة جيشه المهزوم، ومعركة مع يهود الشتات لإقناعهم بجدوى الهجرة إلى أرض الميعاد، ومعركة مع اليهود الهاربين من إسرائيل حتى يعودوا، ومعركة مع المحيط الإقليمي لإقناعه بأن إسرائيل لا تهزم، وقادرة على حماية من يحتمي بها، ومعركة مع الشعب الفلسطيني حتى يقتنع بأن الإسرائيليين لا يموتون كما يموت، ومعركة مع الغرب حتى لا يعتقد أنه يراهن على دولة فاشلة.
لقد وعد نتنياهو شعبه وحلفاءه بإنهاء الحرب في شهر أو عدة أشهر بعد أن ينجز مهمته ويقضي على المقاومة قضاء مبرما، ويدفعها إلى تسليم الأسرى (طواعية) تحت الضغط العسكري، وإعلان الاستسلام التام، لكن المقاومة أخلفت موعده بصمودها وقدرتها على الرد الموجع، فما زالت تنصب الكمائن وتهاجم الدبابات وحاملات الجنود، وما زالت تطلق الصواريخ على المستوطنات والمدن، القريب منها والبعيد، حتى بلغ الأمر بوزير الدفاع الإسرائيلي (يسرائيل كاتس) إلى التهديد بضربات قوية لم تشهدها غزة من قبل إذا لم توقف المقاومة إطلاق صواريخها، مؤكدا أن “حماس مازالت تتوفر على صواريخ لا تعرف إسرائيل مكانها ولا قدراتها”، وهو ما يعني أن صواريخ المقاومة استطاعت أن تؤلم إسرائيل بالفعل، وأن المقاومة مازالت تحتفظ بقدرات عسكرية في المواقع التي دخلتها قوات الاحتلال، ولديها القدرة على أن تأتي بمفاجآت مرعبة للصهاينة.
أما تهديد غزة بهجمات لم تر مثلها من قبل فهو تهديد الخائف المهزوم، فقد رأت غزة من العدو ما لم يره بشر، وليس فوق ماتراه مشهد، وإنها والله لمعجزة، أن تظل فيها حياة تنبض بعد أن دكت دكا، وأن تظل صامدة متماسكة وعندها سلاح تضرب به إسرائيل وتؤلمها، حتى بعد انهيار ما كان يسمى بـ (محور المقاومة)، وانقطاع خطوط الإمداد الإيرانية (المزعومة) عبر سوريا وحزب الله، فلقد سكتت كل المحاور وبقيت عناية الله سبحانه، الذي يخرج القوة من تحت الأنقاض كما يخرج الحي من الميت، وبقي المدد منه وحده كي تستمر المقاومة ويشتد عودها.
وهذه سابقة لم تفعلها مقاومة وطنية من قبل، إذ لا يوجد في تاريخ الاستعمار في العالم كله مقاومة وطنية قاتلت المحتل ستة عشر شهرا متتابعا، في ظل حصار خانق، وأوضاع استراتيجية مختلة لغير صالحها، دوليا وإقليميا، فالمعروف أن المقاومة تحارب بنظرية الكر والفر، تضرب ضربتها قي يوم أو يومين ثم تنسحب وتستعد للضربة التالية، لكن إسرائيل أرادتها حربا شاملة متصلة، ليست ضد المقاومة وحدها، وإنما ضد الشعب الفلسطيني كله بهدف اجتثاثه من أرضه، أرادتها حرب إبادة جماعية للمدنيين العزل من النساء والرجال والأطفال، حرب تطهير عرقي وتهجير قسري وتدمير للمؤسسات المدنية، من مستشفيات ومدارس وجامعات ومساجد وكنائس، وتلك جرائم حرب تحرمها القوانين والمنظمات الدولية، ومع ذلك يقف العالم مكتوف الأيدي أمام العدوان الإسرائيلي البربري، بل هناك في هذا العالم الظالم من يقف مع العدوان، يبرره ويساعده.
ورغم كل هذه الجرائم فلن يتحقق حلم إسرائيل، ولن تستطيع القضاء على الشعب الفلسطيني، ولا على مقاومته الباسلة، وسوف يخرج من هذه المحنة جيل جديد من المقاومة أصلب عودا وأشد بأسا، فالصبي الذي شهد الحرب الحالية، ورأى بأم عينه جرائم القتل ومعجزات المقاومة، ووقف أمام جثث أبيه وأمه وإخوته ملقاة في الشوارع تنهشها الكلاب الضالة، ورأى مالا عين رأت، وسمع ما لا أذن سمعت، هذا الصبي هو عنوان الجيل القادم، الجيل الذي سينهض مثل السيل العرم في مدة قد لا تتجاوز عشرة أعوام، ليدخل في مواجهة جديدة مع الاحتلال، ستكون الأخطر والأعنف، وربما تكون هي الجولة الأخيرة التي تجتث دولة الاحتلال من جذورها.
سيكون جيل المقاومة القادم جيلا قاسيا شديدا، كما جاء وصفه في القرآن الكريم: “عبادا لنا أولي بأس شديد”، و”أشداء على الكفار رحماء بينهم”، وكلمة (أشداء) في القرآن لها معنى خاص جدا، لأن الله سبحانه نسبها إلى نفسه حين قال: “وأن الله شديد العقاب”، فكيف يكون معنى كلمة نسبها الله تعالى إلى نفسه؟