رغم عنصرية وانحطاط خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسيطرة على غزة وتهجير أهلها وتحويلها إلى (ريفييرا) الشرق الأوسط، إلا أنها نجحت في خلق جبهة عربية موحدة رافضة لها، ووضعت الفلسطينيين والعرب أمام اختبار تاريخي لا يحتمل المخادعة؛ إما أن يتحدوا، ويكون لهم موقف وفعل جماعي قوي وحاسم، يحميهم من ابتزاز ترامب ومخططاته، وإما أن ينصاعوا ويستسلموا لنزواته، وفي هذه الحالة سوف تتفرق كلمتهم، وتضيع هيبتهم، ويفتحون على أنفسهم أبواب جهنم.
العرب الآن في لحظة فارقة، فالإعصار الأمريكي الصهيوني لا يستثني أحدا، ولا يقيم وزنا لصداقة أو لمعاهدات وتحالفات، بل يأخذنا فرادى وعلى مراحل، حتى تسهل عليه المهمة، وقد رأينا كيف انقلب ترامب في لحظة على كل المعاهدات، وراح يهدد أصدقاءه تهديدا مباشرا مهينا، ويكشف الوجه الحقيقي لبلاده بعد أن نجح رؤساء سابقون في تجميل هذا الوجه لأكثر من خمسين عاما، منذ أن بدأت مسيرة السلام، فاتضح لكل ذي عينين أن أمريكا ليست الداعم الرئيسي لإسرائيل، وإنما هي إسرائيل نفسها، وليست من تساعد على قتل الفلسطينيين، بل هي التي تقتلهم بيد إسرائيلية، وأنها تمتلك 99% من أوراق الحرب، مثلما تمتلك 99% من أوراق الحل.
لقد صحح ترامب صورة أمريكا أمام من لم يكن يريد أن يصدقها، ووضعها في المواجهة المباشرة، وصار هو الذي يتحكم في القرار الإسرائيلي علنا، ويهدد بأن يعطى الأوامر لنتنياهو بإلغاء وقف إطلاق النار، ويتوعد بفتح الجحيم على غزة إذا لم تسلم المقاومة جميع الأسرى، ويمنح إسرائيل الإذن ببقاء قواتها في لبنان بعد انتهاء مدة الشهرين، وهذه كلها مؤشرات يجب توقظ الوعي العربي، وتجعل العرب يعرفون من عدوهم الحقيقي، فيستشعرون خطره، ويفكرون جديا في طرق المواجهة الجماعية.
وخوفا من هذه اليقظة المفترضة ينتقد الكاتب جيسي.ر.واينبرج في مقاله بصحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية يوم الجمعة الماضية خطة ترامب، ويرى أنها “مجرد صفقة عقارية كبرى، تعكس نقصا في الفهم السياسي والواقع الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط، وأنها نجحت في أن تشعل جبهة عربية موحدة وغاضبة رغم اندثار فكرة القومية العربية، والنتيجة الحقيقية لهذه الخطة لم تكن سوى توحيد الموقف العربي ضد أي فكرة لاستيعاب الفلسطينيين في الدول المجاورة، كما أن اقتراح بنيامين نتنياهو بإنشاء دولة فلسطينية على أراض سعودية زاد الأمور تعقيدا، وأسقط احتمالات التطبيع بين الرياض وتل أبيب في الوقت الراهن”.
ويحدونا أمل كبير في أن تأتي القمة العربية القادمة على قدر هذا الموقف العربي الموحد، وعلى قدر التحدي الكبير لخطة ترامب ونتنياهو، وأيضا على قدر الشجاعة التي أظهرتها المقاومة الفلسطينية في مواجهة ترامب والجحيم الذي هدد به، وعلى قدر تضحيات وصمود الشعب الفلسطيني في حرب استمرت لأكثر من 15 شهرا، وكانت سببا في أن تحاكم إسرائيل لأول مرة في التاريخ أمام محكمة العدل الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وتطهيرعرقي، ويستدعى قادتها للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وتصبح أمريكا مهددة بالتهم ذاتها باعتبارها شريكا وفاعلا أساسيا في هذه الجرائم.
وإذا كان بيننا من يرى أن المقاومة انتصرت في الحرب ومن يرى أنها انهزمت فإن المصلحة القومية العليا تقتضي أن تكون القمة القادمة انعكاسا لرؤية الانتصار، وليست تكريسا لرؤية الهزيمة، وأن تتخلى عن الخلافات المعتادة في التوجهات السياسية والأيديولوجية، فهذا وقت الاتحاد والاصطفاف، وليس وقت الفرقة والانقسام.
وكما تكشف مشاهد تسليم الأسرى الصهاينة في ميادين غزة عن روح النصر والعزة والشموخ يجب أن تكون القمة هي الأخرى شاهدة على صلابة العزيمة العربية، فلا تهتز أمام تهديدات ترامب الفارغة، ولتكن رؤيتها واضحة؛ لا تهجير ولا نزع لسلاح المقاومة مادامت الأرض محتلة، وإذا أرادت إسرائيل أن تعيش في سلام وأمان فلا أقل من أن تقبل بحل الدولتين، وبالمبادرة العربية المطروحة منذ قمة بيروت 2002؛ السلام مقابل الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشريف.
إن أي انحراف عن الموقف العربي الرسمي الثابت سيكون استسلاما لتهديدات ترامب ونتنياهو، وسيفتح شهية الثور الهائج لطلب تنازلات صعبة لا تنتهي، ولن يقدر عليها العرب فرادى ومجتمعون، لذلك فإن رسالة القمة العربية ـ أو خطتها ـ لابد أن تكون قوية وواضحة في رفض التهجير، ورفض نزع سلاح المقاومة من دون الاتفاق الكامل على الدولة الفلسطينية، ورفض تسليم غزة لاية سلطة مناقضة للمقاومة أو معادية لها، حتى لايتحول الصراع مع إسرائيل إلى صراع فلسطيني/ فلسطيني، أو فلسطيني/عربي، وتتحقق مخططات إسرائيل بيد فلسطينية، أو بيد عربية.
إن التمسك بإعمارغزة دون تهجير أهلها هدف نبيل، وحق مستحق، لكن هذا الإعمار لا يجوز أن يكون ورقة للمساومة مقابل نزع سلاح المقاومة، أو جواز مرور لمخطط تصفية القضية الفلسطينية، فتجريد المقاومة من سلاحها يعني مباشرة الاستسلام للعدو وإسقاط مطلب الدولة، تماهيا مع القرار الذي اتخذه الكنيست الإسرائيلي في يوليه الماضي بمنع إقامة دولة فلسطينية.
وليس هناك مقاومة للاحتلال بدون سلاح، خصوصا إذا كان احتلالا استيطانيا قائما على أساطير دينية عقائدية، وحينما تكون للفلسطينيين دولة سوف تنخرط فصائل المقاومة تلقائيا في جيش الدولة، وتكون نواته، ويكون سلاحها سلاحه.
