لا يختلف اثنان من أهل الإنصاف علي أن الفن القيمي الهادف من أهم وسائل التغيير المجتمعي وترسيخ الثقافات الإيجابية وتعزير الهوية والقيم الأخلاقية والإنسانية والوطنية.
ومع انطلاق الموسم الدرامي الرمضاني يتوق أبناء أرض الكنانة كل عام لمشاهدة ومتابعة أعمال درامية راقية تتناسب وقدسية الشهر الفضيل وأجوائه الروحانية والإيمانية، وربما تعود بهم لذكريات زمن جميل حفرت في القلوب والأذهان بحروف من نور.
وعلي عكس ما تشتهيه السفن في خضم أمواج الحياة يبدو أن صناعة الدراما في بلادنا قد أصبحت وأمست في خبر “كان”، وفي مأزق كبير ينحرف بها تدريجيا عن مسارها القيمي الصحيح، وتتطلب وقفات حاسمة قبل فوات الأوان!.
والمتابع المتصفح لحصاد السنوات الأخيرة ـ مع هذا الزخم الكبير من المسلسلات والأعمال الفنية وحجم الإنتاج الضخم، والذي تجاوز هذا العام فقط حاجز المليار و200 مليون جنيه ـ سيري الكثير من الجعجعة والصخب والقليل من الطحين المثمر، ممزوجا بحسرة علي غياب الدراما القيمية التي اتسمت بها الدراما المصرية خلال سنوات طويلة وقادتها للصفوف الأولي وقمة الدراما العربية.
لقد زاد الشيء عن حده وتسببت علل ومقابح الدراما التي تعرضها مختلف الفضائيات في تعكير صفو الشهر المبارك، حيث تصدمنا كل ليلة ،وكأننا نعيش في كوكب آخر، فما يزال صناع الدراما يغردون خارج السرب في آفاق “مصطنعة”، بعيداً عن الواقع، ولا يلتفتون إلي ما يطلبه المشاهدون ويرضي أذواقهم، وهناك حالة من الإصرار على تقديم مواد درامية بطريقة معينة وفي قوالب شاذة تبلورت خلال السنوات الأخيرة تعتمد علي الإثارة والعنف والمبالغة في تجسيد حجم الشر والخلافات العائلية والإجتماعية وكأن المجتمع قد تحول لحفنه من الأشرار والنفعيين !.
والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه بقوة ..ما علاقة
السياق الدرامي بتضمين هذه المشاهد القبيحة التي تزخر بها غالبية المسلسلات؟ وما علاقته بهذا الكم الهائل والسيل الهادر من الشتائم والتجاوزات ومشاهد السكر وتعاطي المخدرات والرقص والابتذال ومخاطبة الغرائز؟!.
كما انتقل هذا “السفه” والتدني” للفواصل الإعلانية التي لم تعد تعرف الضوابط الأخلاقية، وإلي العديد من البرامح التي تسخر من عقول المشاهدين، باستثناء “ومضات” قد تبدو إيجابية مثل برنامج “مدفع رمضان” والذي يقدمه الفنان محمد رمضان وبرنامج “أحسن ناس” للإعلامي د.عمرو الليثي، والملمح الأبرز في البرنامجين الانحياز للبسطاء ومراعاة البعد الإنساني.
ولا أدري لمصلحة من الإصرار علي تقديم تلك التجاوزات التي تصل إلي حد الجرائم مع سبق الإصرار والترصد في شهر الخير والإحسان والتوبة والاستغفار وبناء الشخصية الإيمانية وتغيير النفس نحو الأفضل.
كما لا أجد سببا مفهوما لهذا النكوص سوي غياب الرقابة الفعالة والقوانين الصارمة المنظمة لمحاصرة هذه الوجبات الدرامية الفاسدة.
ويعتقد البعض أن للرقابة على المصنفات الفنية دوراً كبيراً فى مراقبة الأعمال الدرامية وحجب الأعمال والمشاهد التى قد تشكل خطراً على المجتمع أو لا تتناسب حتى مع عاداته وتقاليده، ولكن الواقع يؤكد عكس ذلك تماماً، لأن الرقابة على المصنفات الفنية تقف عاجزة تماماً أمام تصوير وعرض الأعمال الدرامية، بسبب غياب القوانين التى تمنحها سلطة وقف عرض المسلسل أو حتى وقف تصويره، عكس ما يحدث مع الأفلام السينمائية، التى يسهل على الرقابة إلغاء تصريح العرض السينمائى الممنوح لها، إذا ما اكتشفت أى تلاعب بالنص أثناء تصويره، ولكن مع الأعمال الدرامية الوضع مختلف لعدة أسباب، أولها أن المسلسل لا يتم تسليم حلقاته بالكامل للرقابة على المصنفات الفنية قبل البدء فى تصويره، حيث إن أغلب الأعمال الدرامية يتم استكمال كتابة حلقاتها خلال تصوير المسلسل، وهو ما يمثل عائقاً أمام الرقابة لمتابعة ما يتم تصويره ومطابقته مع ما تمت كتابته.
كما لا تزال يد الرقابة مغلولة لأسباب أخري منها غياب سلطة الرقابة على القنوات الفضائية الخاصة وعدم امتلاكها لأدوات عقاب القنوات التى تتجاوز بعرض العمل الدرامى دون الحصول على موافقة رقابية.
وأتصور أن الفن القيمي الراقي هو محاكاة للواقع بكل تفاصيله وتوصيفه بدقة ورغبة في إصلاح إعوجاجه وإعادة تغييره وتقديم النماذج الإيجابية وضبط الحبكة الدرامية بصورة متوازنة بين جناحي الخير والعدل من جانب وخط الشر والجموح الإنساني علي المسار الآخر!.
وكما يقول بعض النقاد
أن الدراما والسينما المصرية باتت بلا هوية وتشبه الدراما “الهندية”، حيث يسود اللامنطق، وتُقدّم صورا متخيّلة وغير حقيقية ومبالغ فيها، ولا علاقة لها بالواقع!.
كما يتفق المتخصصون أن غياب القيم الإنسانية والأخلاقية والوطنية في السياقات الدرامية يفقدها دورها الفعال كقوي ناعمة في صناعة الوعي وتوجيه الرأي العام، كما يقلل من تأثيرها المنوط بها في التأثير في اتجاهات الجمهور المتلقي،فالدراما سلاح خطير يؤثر في العقول تأثيرا مباشرا.
وفي المقدمة تأتي الدراما القيمية باعتبارها نوع من الدراما التي تركز على تقديم قيم ومبادئ توجيهية من خلال القصة والشخصيات.
ومن بين أهم أنواع الدراما القيمية:
ـ الدراما الاجتماعية: والتي تركز على تقديم قيم ومبادئ توجيهية تتعلق بالمشاكل الاجتماعية.
ـ الدراما الأخلاقية: تركز على تقديم مبادئ توجيهية تتعلق بالاخلاق والقيم الشخصية.
ـ الدراما التربوية: تركز على تقديم قيم ومبادئ توجيهية تتعلق بالتعليم والتربية.
ـ الدراما التاريخية التي تتوقف عند محطات زمنية مهمة وتقدم سيرا ذاتية لرموز ونماذج إنسانية لا تقبل المراء والجدل والتشكيك.
ولاريب أن للدراما القيمية أهمية كبري في تطوير وتعزيز القيم والمبادئ لدى المشاهدين، لما لها من “مفعول السحر” نحو تحسين السلوك، وتعزيز الوعي حول القضايا الاجتماعية والاخلاقية.
في تقديري أن هناك عددا من المحددات لكيفية النهوض وبناء دراما قيمية فاعلة ومؤثرة منها:
ـ أهمية تحديد القيم والمبادئ التي تريد أن تكون أساسا للأعمال الدرامية.
ـ الاهتمام بكتابة السيناريو، وكتابته بطريقة احترافية ومبدعة بعيدا عن أعمال المقاولات والإثارة.
ـ الاعتماد على الأعمال الأدبية لكبار الأدباء كما كان في السابق، علاوة علي توظيف الأعمال المبدعة للمواهب الواعدة والأجيال الجديدة.
ـ اختيار أطقم التمثيل والإخراج الذين يمكنهم تقديم الشخوص بشكل فعال ومقنع.
ـ المعالجة الدرامية المتزنة عن طريق تقديم المشكلات والحلول في إطار واقعي دون مبالغات أو انحراف عن الواقع وتقديم النماذج الإيجابية والاهتمام بغرس الرسائل القيمية..
وأتصور أن الأمر مرهون بإرادة قوية لدي منظومة صناع الدراما والتنسيق التام مع كافة الجهات الرقابية لحصار هذه الدراما الفاسدة والعودة بالدراما المصرية لمكانتها المعهوده وما يليق بها في عصر التقنيات العصرية والمتغيرات المتسارعة.
وقد كنت أتمني أن يفطن أهل الفن وصناعه لدقة المرحلة المفصلية الفارقة التي تمر بها الأمة العربية، وتقدم أعمالا فنية علي قدر من المسؤولية الوطنية والإجتماعية ،وإدراك حجم التحديات الإقليمية والدولية التي تهدد الهوية واللغة ومنظومة الاستقرار المجتمعي..ولله الأمر من قبل ومن بعد..